3

:: في التراث والتحقيق (2/ 3) – رؤى ثقافية ::

   
 

التاريخ : 16/06/2013

الكاتب : أ. د. عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي   عدد القراءات : 1677

 


 

 

إن تحقيق التراث عِلْمٌ فيلولوجيٌّ/ لسانيٌّ دقيقٌ، وفنٌّ ذو أصول. والحقّ أنه، في كثير من جوانبه، صنعة أخطر من التأليف بمراحل، بما ينبغي فيه من توافر الآلة والمهارة والعلم والخبرة والأمانة والصبر. وإلّا فخير للتراث، ألف مرة، أن يبقى مخطوطًا!

وقد تطرقنا في المقال السابق إلى كتاب «التِّبر المسبوك في تاريخ معرفة الملوك»، لعمر بن أحمد الهاشمي، الذي اشتغل بتحقيقه: الأستاذ عبدالرحمن الرفاعي، (دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، 1434هـ). وأشرنا إلى ما ورد فيه حول فتنة «المخلدي ابن مسلية»، الذي أبرزه «المحقِّق» تحت عنوان «فتنة الفَيْفي»، ذاكرين أن قرائن التاريخ والجغرافيا والأسماء والأنساب تتنافى معه، وإنْ أثبته «المحقِّق» في المتن، والحاشية، والعنونات، والفهارس. وفي هذا المقال نسعى إلى التحقُّق من النصّ- الذي اشتُقّت منه كلمة لتُجعل عنوانًا- من مصدره؛ عائدين إلى (البهكلي) في كتابه «خلاصة العسجد»، الذي روى الحكاية. ومن الواضح أن (الهاشمي، 1313هـ- لم يحدِّد «المحقق» تاريخ وفاته!) إنما كان يستنسخ كلامه من «خلاصة العسجد»؛ فهو ناقل متأخِّر، بل هو مضطرب النقل جدًّا. ولذلك فإن كتابه زهيد القيمة في هذا القسم المتعلّق بالتاريخ السابق على ما عاصر.

فهل ذكر البهكلي اسم «فَيْفاء»، أو «الفَيْفي»، كما زعم «محقق» «التبر المسبوك»؟

لن أعود، للإجابة، إلى الكتاب المطبوع، بل سأعود إلى مخطوطته، وهي في نسخة جيِّدة، من كتابة عبدالله العمودي، كما ورد في صفحة عنوانها، محفوظة في الجامع الكبير بصنعاء.(1) يقول البهكلي عن «المخلدي» ما نصُّه:

«السنة الثانية والأربعين: فيها [توجهت الجهة العريشية] إلى السيد محمَّد بن القاسم المرتضى، فلمّا وصل إليها، حشد بالمخلاف السليماني عربٌ من البدوان على يد رجل من (آل حبيب) يسمى المخلدي، ومن الناس من يسميه ابن مسلية، نسبة إلى أُمِّه، على عُرف أهل البادية، ومُسلية على وزن مُحسنة من السُّلوان، فلم تبق قرية من قرى المخلاف إلا صُبِّحت أو خلت عن أهلها. وعامل صبيا يومئذ الشريف أحمد المهدي الخواجي، فانقطعت الطرقات، وقتل الضعفاء والمساكين من المسافرين والقاطنين؛ فلم يقرّ لأهل المخلاف قرار، ولا اطمأنت بهم دار؛ فأَجْلَوا عن أوطانهم، فلم يبق بها أنيس (...) وأدَّى الحال إلى أن ألَّب ذلك البدويّ طائفة من البدوان [ونفر بهم] إلى بندر جازان، وكان العامل بها السيِّد الماجد الحسين بن القاسم من جهة أخيه السيِّد محمّد بن القاسم. فبرز إليه السيِّد المذكور في جماعة حقيرة من العسكر، لا يؤمل بهم حصول الظفر، وكان البدوي راكبًا على جواد، فاعترك هو والسيِّد، ثم أولاه الله سبحانه الظفر، فظفر بالبدوي وقتله. ولا علم لي أكان هو المستبد بقتله أم شاركه بعض أصحابه؟ (...) فأصبحت أشلاؤه طعمة للنسور، وأُبين رأسه فأُوصل إلى أبي عريش المعمور، وخَبَتْ نار تلك الفتنة التي قصمت الظهور، ولله عاقبة الأمور. (...). وكان هذا البدوي قد أظهر كثيرًا من الفساد، وعجز عن مناوأته كثير من الأفراد والأعداد، والأمراء أهل الاستعداد، حتى أراح الله سبحانه منه...».(2)

هذا هو نص البهكلي. وعلى هامشه كُتب عنوان واضح: «خروج البدوي المخلدي الحبيبي وما جرى له مع أهل المخلاف». وذاك، إذن، هو «البدوي المخلدي الحبيبي»، الذي ظهر في تحقيق كتاب «التِّبر» باسم «الفيفي»، في غير موضع! ومصطلح «البدو»، أو «البدوان»، أو أهل «الجهة البريّة»، كان يُطلق في كتب المخلاف السليماني التاريخيّة على غير أهالي المُدن الساحليَّة، أو ربما غير الموالين سياسيًّا. ونحن نجد أن (الهاشمي)، في كتابه نفسه، يطلقه مثلًا على: قبيلة بني مروان، وبني حُمَّد، والمسارحة، وأغلب قبائل وادي ضَمَد.

لهذا، فما كان مجرّد اشتباه في صحَّة المعلومة، تبيَّن أن وراءه أحد أمور: إمّا سوء نقل، أو عدم تحرٍّ للحقيقة التاريخيّة والدقّة العلميّة، أو خليط من ذلك كله.

وما حكاه البهكلي صورة عن الاضطرابات في تهامة المخلاف، والنزاعات السياسية والقبليّة فيه، ولا علاقة للقطاع الجبلي بذلك كله؛ إذ لم يكن جزءًا من المخلاف. غير أن ثمَّة من يخلط بين تاريخ المخلاف وجغرافيته وبين ما يسمى اليوم (منطقة جازان)، فيضيف إلى المخلاف مناطق، كجبال فَيْفاء، مع أنها لم تخضع في تاريخها إلّا للحكم السعودي الحديث.(3) لأجل ذلك فإن (الهاشمي) نفسه لمّا سرد أسماء «قبائل المخلاف السليماني»(4)، لم يذكر بينها قبائل القطاع الجبلي، كقبائل فَيْفاء وبني مالك؛ لأنه يُدرك أنها تاريخيًّا لا تنتمي إلى المخلاف. وممّا يدلّ أيضًا على استقلال جبال فَيْفاء قبل العهد السعودي- حتى عن سلطان الأتراك (العثمانيين)، المتوغل في كل مكان- ما يشير إليه (الهاشمي)(5) كذلك من أن (محمّد بن علي الإدريسي، -1341هـ= 1923م) لمّا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وخشي فتكة الأتراك، «عزم على نقل بيوته إلى فَيْفاء، الجبل المشهور بالعلو المنقطع، وقد خُصِّص له بيت في ذلك الجبل، حتى كان الظفر له على الأتراك.»

ولئن كان «محقِّق» «التِّبر» قد اعتذر عمّا يرد في الكتاب بأن المخطوط مليء بالشطب والتعديل، «ممّا صعّب تحرير نصه في مواضع عدة ودعا إلى الاجتهاد والمقاربة»، وأنه مليء بالأخطاء التاريخيّة، فإنه يظلّ من العجيب أن يعتمد على كتاب «خلاصة العسجد» في توثيقه معلومة، ويُحيل القارئ إليه، ثم نجد أن ذلك الكتاب لا يقول بما ذَكَرَه «المحقِّق»، وزعم أن الهاشمي- الذي إنما ينقل عن البهكلي- ذَكَرَه! فكيف اتفق ذلك كلّه؟!

ثم هَبْ أن ما ورد في مخطوط (الهاشمي) ليس بصيغة «رجل من (آل حبيب) يسمى المخلدي»- كما هو نص (البهكلي)- فإن الأقرب للاحتمال في الكلمة التي أوردها كان أنها تصحيف «صبيا»، مثلًا، وليست «فيفا». فـ(صبيا) هي المكان السياقي لما يسوقه من أحداث؛ فلعل ما زعمه هو أن المخلدي من «صبيا». وقد كان بين أهل صبيا وأولئك السادة الإماميين الزيديين اليمانيين نزاع، وكان بين الأشراف الحجازيين والأئمة اليمانيين صراع طاحن على حكم المنطقة. بل كانت بين الخواجيّين في صبيا وبعض الأشراف معارك(6).

وأيًّا ما كان انتماء (المخلدي)، فإن الإمعان في تشويه حركته إنما هو خطابٌ سياسيٌّ مكشوف، كُتب بأقلام غير متجرِّدة للحقيقة؛ لأنها موالية لهؤلاء السلاطين، سواء من أئمة اليمن أو أشراف الحجاز، المتنافسين على حكم المخلاف السليماني. وهي أقلام موالية سياسيًّا- وفيها عناصر متنفِّذة لدى الأئمة أو الأشراف- أو موالية لهما مذهبيًّا. فكان طبيعيًّا أن لا نعرف هويّة المخلدي، ولا قضيَّته الحقيقيَّة ومن معه من الثائرين، بل تصويرهم على أنهم مجرد مخرِّبين و«مفسدين»، متعطِّشين للدماء، ليس إلَّا. وهكذا يُكتب التاريخ غالبًا! فكيف إذا كان كاتبه جزءًا من السُّلطة التي يكتب عن تاريخها؟!

إن من البدهي، لدى (أئمّة التحقيق)، أن على المحقّق- إلى جانب التحرّي عن صحَّة النص المحقَّق، ووثوق معلوماته- عدم إقحام ما ليس في الكتاب المحقَّق فيه. أمّا التوغل في مزيد إيهام، من خلال عنونات تضاف، أو تُدرَج في فهرس الموضوعات، فإسراف في التجاوز، لا يقلّ غرابة عن حكاية (المخلدي) أو (ابن مسلية)!

 

(1) منها نسخة في مكتبة الأمير سلمان في جامعة الملك سعود بالرياض، قسم المخطوطات، (برقم 7722، ف 1621/ 4، التصنيف 953،8/ خ.ب)، وتعود ملكيتها إلى «المكتبة العقيلية» بجازان.

(2) مخطوط «خلاصة العسجد»، الورقتان 7 و8.

(3) ويظهر هذا الخلط لدى «المحقِّق» نفسه. من مثل تعليقه على فرار (الإدريسي) من القوات السعوديّة إلى «مكان يسمَّى: (عِرْق)»؛ فذكر أن في المخلاف أماكن أربعة بهذا الاسم، مشيرًا إلى اثنين في (فَيْفاء) وثالث في (بني مالك). (ص161). وفضلًا عن أن لا علاقة لتلك الجبال بمصطلح «المخلاف السليماني»، ولا بالتجاء الإدريسي إلى (عِرْق) في (العارضة)، فإن ما في (فَيْفاء) هو باسم: «بُقعة العِرْق»، لا «عِرْق»، كما أن تحديده لدى «المحقِّق» غير صحيح، بل مناقض للواقع!

(4) انظر: التبر المسبوك، 177- 180.

(5) م.ن، 111.

(6) انظر: م.ن، 80- 81

 

في التراث والتحقيق (2/ 3)

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.