3

:: رمق صغير لشعب كبير ::

   
 

التاريخ : 26/02/2013

الكاتب : د. أحمد الخميسي   عدد القراءات : 1345

 


 

 

في فبراير 1923 كتب عباس العقاد بجريدة البلاغ يقول: "نشرت زميلتنا الأخبار في 14 يناير الماضي خبراً جاء فيه أن مسجوناً يخدم في حديقة أحد الموظفين الإنجليز أكل "طماطمة" واحدة ملقاة، فما كان من السيدة زوجة الموظف الإنجليزي وقد رأت المسجون إلا أن أمرت الأونباشي الحارس أن يظل يضرب المسجون بالكرباج حتى تكلفه أن يكف عن ضربه".

انقضى تسعون عاما على حادثة الطماطمة التي جلد بسببها مسجون جائع ظلوا يجلدونه – لأنه اشتهى حبة طماطم واحدة – في انتظار أن تتعطف مواطنة انجليزية وتقول يكفي هذا. امرأة شابة جاءت من وراء البحار بصحبة زوجها تظن في قرارة نفسها أن من حقّها بداهة أن تأمر بجلد إنسان لا تعرف لغته ولا ثقافته ولا همومه ولا تاريخ بلاده العريق، لمجرد أن زوجها موظف في ترسانة بواخر الاستعمار العسكرية. بعد نحو أربعين عاما يكتب يوسف إدريس روايته "الحرام" وينشرها عام 1959 في الكتاب الفضي، ليحكي لنا قصة امرأة من عمال التراحيل باعت نفسها من أجل "جذر بطاطا" لتسد به رمق زوجها المريض العاطل. ويقال في اللغة العربية: سدّ الرجلُ رمقَ أخيه أي أطعمه فأنقذه من الموت جوعاً، فالرمق هو الخيط الفاصل بين الحياة والموت، تسدّه حبة طماطم زمن الاحتلال الانجليزي، أو جذر بطاطا عهد الاستقلال. وقبل الإطاحة بمبارك بعامين نشرت إحدى الصحف أن طفلة في التاسعة من عمرها اشترت بدون علم والدها كيس بطاطس فظلّ يضربها بعصا غليظة حتى توفيت لأن ثمن الكيس الذي اشتهته الطفلة فوق طاقته. هكذا بعد قرن تقريبا من كفاح الشعب مازالت الفئات المطحونة من عمال وفلاحين وموظفين وغيرها لا تجد ما تسد به رمقها، ولو كان أقل القليل، ومن الاحتلال إلى الاستقلال إلى التبعية مازالت حبة الطماطم والجوع هو القضية الرئيسية. هذا التاريخ الممتد للجموع التي أهدر حقها في حبة طماطم أو جذر بطاطا أو كيس بطاطس، مازال يكتب الصفحات الجديدة في حياتنا. ففي أوائل فبراير الحالي قام المواطن حسام فؤاد 43 سنة، دبلوم صنايع، بشنق نفسه على سور أرض الملاعب المواجه لمبنى ديوان محافظة أسيوط بعد أن طحنته ضائقة مالية شديدة وفقد الأمل في العثور على عمل. الجوع هو الحقيقة الكبرى التي إذا غابت عن أية ثورة، وأية قوى سياسية، غابت الثورة ذاتها، وأصبحت لغواً مستمراً حول "دستور"، و"نزاهة انتخابية"، و"صناديق انتخابات". الجوع إلى الخبز، وإلى العلم، وإلى الحرية، وإلى الكرامة، والمسكن، والعلاج هو قضية الثورة إن كانت الثورة تعبيرا عن الشعب. وحسب تقرير التنمية التنمية الإنسانية الصادر عن الأمم المتحدة في 2009 فإن عدد الفقراء في مصر وفقا للحد الأعلى لخط الفقر في مصر (2.7 دولار يوميا) ارتفع ليصل إلى نحو ثلاثين مليون مواطن ينفق الفرد منهم يوميا 15 جنيها فقط على كافة احتياجاته. وحين تقول "ثلاثين مليون مواطن" فأنت تتحدث عن شعب بأكمله يفوق تعداد سكان الإردن ولبنان وقطر والبحرين والكويت والإمارات مجتمعة. أمة كاملة مستقلة، لا ينقصها سوى نشيدها وعلم شعاره "لانجد ما يسدّ الرمق". وهي أمّة لا تأكل، يسكن منها مليون ونصف المليون إنسان في المقابر مع الموتى، بينما توجد أكثر من 8 مليون شقة مغلقة! وفي مطلع 2010 نشر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار تقريراً بعنوان "ماذا يقرأ المصريون؟" جاء فيه أن 88 % من الأسر المصرية لا يقرأ أي من أفرادها أي كتب باستثناء الكتب المدرسية، وأن 76% من الأسر لا تشتري أية صحف على الإطلاق! السبب الرئيسي في ذلك - كما يشير التقرير- التدهور الحاد لمستوى الدخول. أمّةٌ لا تأكل ولا تسكن ولا تقرأ. ويكاد تاريخ مصر في حقيقته أن يكون تاريخ الصراع من أجل "سدّ الرمق". ولعلّ الشعب المصري هو الشعب الوحيد في العالم الذي يطلق على الخبز كلمة "عيش" أي حياة، لأنه يعتمد أساساً على رغيف الخبز لمواصلة البقاء. وأحيانا تتطلع إلى إنسان فقير في الشارع، وتسأل نفسك: ما الذي أكله هذا الانسان طوال حياته كلها من مأكولات مغذية وشهية؟ ما الذي لبسه هذا الانسان في حياته كلها من أقمشة ناعمة وغالية؟ من الذي أحبه هذا الشخص طوال عمره وسعد به؟ ما الذي تعلمه؟ ما هي المتع الصغيرة التي كانت متاحة أمامه؟. لا شيء. حياة تمرّ كالطيف أشبه بمدة عقوبة ينبغي للمرء أن يتحمّلها حتى تنتهي. وعندما تغدو الحياة تدريبا على الموت، فلا بد أن يثور الناس، ولابد أن تخرج الشوارع السفلية والأزقة والقرى متمردة، لأنه لم يعد لدى أحد ما يخسره سوى الموت. فإذا انتفض الناس حصدهم رصاص الحكم الذي جاؤوا به عبر انتخابات حرة نزيهه وتصيَّدهم قنّاصو ديمقراطية الإخوان من أعالى سطوح البيوت. وقد انقضى نحو القرن منذ أن نشر عباس العقاد ملاحظته إلى يومنا هذا، ومازال السؤال قائماً: حبة الطماطم. جذر البطاطا. كيس البطاطس؟ متى يكف هذا الشعب عن الجوع؟. ينتفض الناس في كل مكان ضد مرسي والإخوان. وعندما انهارت في طوخ في 20 فبراير الحالي بيارة ماء وتوفي تسعة أفراد، احتشد الأهالي وانطلقوا يطالبون بإسقاط مرسي. أصبحت أقل عطسة عابرة تكفى للمطالبة بإسقاط مرسي. وفي احصائية صدرت مؤخراً عن مصلحة الطب الشرعي يتبين لنا أن عدد الشهداء في عهد الإخواني محمد مرسي بلغ مئة شهيد، كان في مقدمتهم "جيكا" عصفور الثورة وأولى الكلمات في دفتر الشهداء الجدد بعد الثورة.

وقد تنوعت أشكال الانتفاض والاحتجاج الشعبي ضد الفاشية الإخوانية بدءاً من المظاهرات إلى أشكال محدودة من العصيان المدني، مثل قطع السكك الحديدية، وتعطيل عمل المرافق، وصولاً إلى إعلان بورسعيد ومن بعدها الاسماعيلية العصيان المدني. وقد نشأ العصيان المدني تاريخياً كوسيلة للضغط على النظم بدون اللجوء للعنف بهدف تغيير وضع أو قانون، ومن ثم فإنه وسيلة من وسائل الحركة الشعبية لإنهاك النظام وإجباره على الإنصات. ولعلّ السّمة الأهم للعصيان المدني أنه يمثل إلى حد كبير محاولة جماعية للتوصل لتصور مشترك للعدالة. التعريف الأدق أن العصيان - رفض الخضوع في ظروف محددة. وكان الزعيم الهندي غاندي أول من لجأ إلى تلك الوسيلة معتمدا على مفهوم صاغه الأمريكي هنرى ثورو وطرحه في محاضرات ألقاها عام 1849، ثم نشرت تلك المحاضرات عام  1866، بعد موت هنرى ثورو بأربع سنوات. لهذا كتب غاندي عام 1942 في صحيفة "الرأي الهندي" التي كان يصدرها مقالاً بعنوان "نداء للأصدقاء الأمريكان" يقول فيه: "لقد أعطيتموني معلّماً في شخص هنرى ثورو الذي قدم لي بمقاله العصيان المدني تأكيداً علمياً لما كنت أقوم به". فيما بعد لجأ مارتن لوثر كينج إلى العصيان المدني الجزئي عام 1955 لإجبار الحكومة على الاستجابة لمطالب الزنوج. ونجح العصيان المدني في جنوب أفريقيا في الحد من ظاهرة التمييز العنصري. السؤال هو: أية أشكال العصيان المدني قد تنجح لدينا؟ العصيان الجزئي؟ أم الكلي؟ الاعتماد على امتناع الموظفين عن أداء أعمالهم ورفض سداد مستحقات الدولة من الضرائب وفواتير الكهرباء والغاز وغلق المحلات وصولاً إلى شلّ الحياة بالكامل؟. في كل الحالات فإن الأمل معقود على أن يكون العصيان خطوة في إطار خطة عامة تضع في القلب منها حقيقة أن لدينا أمّة كاملة من الفقراء تبحث عما يسدّ رمقها. أمّة تريد مواصلة البقاء على قيد الحياة. الأمر المدهش والمؤلم أن الشعب عندنا كما يقال عادة "يرضى بقليله"، إنه رمق صغير لشعب كبير، لكن ماذا يفعل إن سلبوه حتى ذلك القليل؟     

***

أحمد الخميسي – كاتب مصري

Ahmadalkhamisi2012@gmail.com

 

 

 

 
   
 

التعليقات : 0

 

   
 

.