جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

أربعون سنة على الغياب.. زلفا شمعون وجه يذهّب الذكرى


جوزف أبي ضاهر
26/08/2011

 

 

أربعون من السنوات مرّت، ولم يخفت الوهج، ولو ابتعد، في الطرف الآخر من العمر وجهٌ يذهّب الذكرى، نقرأ فيه إشراقًا مثل فجر، وتواضعًا مثل بنفسجة، ورقّة مثل نسمة صيف انتصف فاصلاً بين الـ «هنا» والـ «هناك»، من دون مسٍّ بالصورة ـ الأيقونة.

إنها زلفا شمعون، السيدة الأولى قبل دخولها القصر الرئاسي، وبعد خروجها منه. هي التي وقّعت بحضورها وعملها «سجلّ» الجمال اللبناني، فازدهرت الفنون التشكيلية والمسرحية، وفتحت أبواب بعلبك للمهرجانات... وأعطت بيدها اليمنى خيرًا، حرصت ألا تعرف به يدها اليسرى.

***

صورة زلفا نقولا تابت منذ أطلّت على الحياة العامّة، وهي في السابعة عشرة من عمرها، رسم الرئيس كميل شمعون ملامحها، في كتاب أهداه لها، وصدر بالفرنسية سنة 1963 عن دار غاليمار في باريس، قال:

«كانت تجمع إلى النعومة الأساسيّة شجاعة لا حدّ لها، وافتخارًا على بساطة ورباطة جأش أمام الصعاب. هذه الخصال لم تخنها أبدًا، أو بالأحرى لم تخطئ أبدًا بالنسبة لي، بالرغم من بعض أخطائي الكبيرة الكنت مسؤولاً عنها، وبالرغم من حياتي السياسيّة المضطربة(...) في 30 كانون الأول من سنة 1930، وسط نهار ماطر (ويقال أن المطر يجلب الحظ) تزوّجنا. كان الاحتفال بسيطًا وحميمًا، حضره لفيف من الأهل والأصدقاء. كنت أرتدي طقمًا رماديًا فاتحًا. أما هي، فكانت ذات بياض طهري، في ثوب إكليلها الطويل».

***

عاشت مع الرئيس شمعون عَدَدَ سنوات غيابها اليوم: أربعين سنة. قاسمته همومه من دون تذمّر. وشاركته الأخطار والمتاعب من دون خوف أو وهن، وما تخلّت يومًا عن تواضع الكبار.

تروي ساميه دمشقيّة (رفيقة الدراسة) أن زلفا بعد تسلّم زوجها سفارة لبنان في لندن سنة 1945 «كانت تصنع الشاي بيدها، وتحمله في الساعة الخامسة بعد ظهر كل يوم إلى موظّفي السفارة. ولفرط حبّها الأطفال، وشدّة اندفاعها إلى مساعدة الغير، تصرّ على أن ترعى أولاد الموظّفين بالمناوبة، خلال ذهابهم إلى حفلة، أو مسرحيّة. كانت خير حاضنة إياهم ريثما يعود أهلهم... ولم تبدّل عادتها هذه، حتى يوم أصبحت رئيسة. فكانت تخيط أجمل الأثواب لبنات صديقاتها» (الحياة 16 آب 1971).

***

سعت زلفا شمعون المأخوذة بـ «الجمال» إلى مساعدة كل الذين يدخلون حديقته، وهي المغرمة بالهندسة الداخليّة للبيوت، وكم من موهبة احتضنتها، ووفرت لها الامكانات لمتابعة الدراسة والتخصّص... ومنذ دخولها قصر الرئاسة وسعت اهتمامها بالفنون على اختلافها.

يقول ميشال بصبوص في محاضرة ألقاها في أنطلياس (1973): «كانت زلفا شمعون وراء كل حركة فنيّة، وكان لها الفضل الكبير في توعية الجمهور على حضور المعارض، والاستماع إلى الموسيقى، وإعداد مهرجانات بعلبك... وغيرها من الحركات الفنية». وكانت تُقدَّم باسمها جائزة ثانية بعد جائزة الرئيس شمعون من وزارة التربية للفنانين المميزين في معرضهم السنوي في الأونسكو.

بصبوص الذي سهلت له زلفا شمعون الدراسة في باريس سنة 1954 (بعد دراسة أولى سنة 1951)، ورافقت معارضه، ومكّنته من الانطلاقة، روى أمامي، وبتأثر، حدثًا فاق تصوّره: «... كان ذلك اليوم فريدًا في حياتي، جمع الحزن الكبير إلى الفرح الكبير، ووشمني بحب هذه السيدة التي لن أنساها ما حييت.

«ليلة ميلاد 1953 وكنت أسكن في شبه بيت ـ محترف في بيروت، قرب مدرسة «زهرة الاحسان» شعرت بضيق في النفس... الوحدة جلاّد لا يستريح سوطه، وليس لي ما يبعده عنّي. لا صديقة تشاركني فرح  العيد، ولا مال في جيبي يوفّر لي السهر خارجًا. وبرغم ذلك خرجت من بيتي وهِمتُ على وجهي في الشوارع المزيّنة، أحرق الوقت، ودخان سيكارتي يحرقني، ويمشي أمامي ظلاً يذكّرني: «أنتَ المنسي الوحيد في هذا العالم».

«حين انتصف الليل، وقُرعت الأجراس معلنة بدء الاحتفالات الدينيّة، عدت، مكسورًا إلى «المكان» الأضيق من ذاتي... وفوجئت: أمام الباب ورودًا في توليفة أنيقة، وبطاقة تحمل إسمًا بالأجنبية، اقتربت منها محاولاً اقناع ذاتي أنها ليست لي، وقد أخطأ واضعها العنوان والاسم و... فتحت المغلّف الأبيض الصغير، ويدي ترتجف، وأحاسيسي ومشاعري... وسقطت راكعًا أمام الورود، يسبقني دمعي في قراءة معايدة من اللبنانية الأولى وتمنياتها لي بالنجاح والسعادة.

«بكيت كما لم أبكِ من قبل، وفرحت كما لم أفرح من قبل... دخلت فرحي، وسكنت أحلامي، ونمت كما لم أنم من قبل.

«صباح العيد، عرفت من أصدقاء أن السيدة زلفا زارتني في بيتي المتواضع، أنا الكنت منسيًّا ضائعًا، ووجدت ذاتي في محبة هذه المرأة الأم».

***

لم يتوقف اهتمام السيدة زلفا شمعون عند حدّ، فكانت والرئيس والسيدة صونيا فرنجيه من منشّطي الحركة الفنية في راشانا، ومن أوّل المتبرعين لإنشاء مسرح فيها، قُدمت عليه أعمال لبنانية وفرنسية وايطالية... وتألقت راشانا بالنحت والمسرح وحضور الرئيس وزوجته في طليعة المشاركين.

***

سعت إلى اطلاق مهرجانات بعلبك، متضمّنة إلى جانب إحياء التراث اللبناني، برنامجًا للفنون العالميّة. وحوّلت الطابق العلوي من قصر القنطاري (الرئاسي) إلى مشغل للخياطة، فأعدّت جميع الملابس الفولكلوريّة في بيتها، وكانت تخيط معظمها بيديها الزنبقتين، وهي طالما اهتمت بإعداد ملابسها بنفسها، وتذكر صديقاتها أناقتها، وحين كانت تقول إحداهن لها: «ما أجمل تايورك». تجيبها: «كان طقمًا عتيقًا لكميل فحوّلته تايورًا لي».

هذا الاهتمام بالاشغال اليدويّة، جعلها تؤسس غير مشغل يدويّ للفتيات (في دير القمر وقرى مجاورة) وتحثّهن على عمل يبرز أناقتهن وأنوثتهن، ويوفر لهن اكتفاء ذاتيًا.

***

حب زلفا شمعون للفنون والجمال، زاد من حبّها لكل طبقات المجتمع. لم تفرّق يومًا في تعامل بين مسؤول كبير ومواطن متواضع، لا بل التفتت إلى من حرمتهم الحياة بعض نِعَمها، وحاولت التعويض عليهم. أسست «الجمعية اللبنانية لإغاثة الضرير»، وفي أوّل سَفرةٍ لها برفقة الرئيس شمعون إلى أميركا اللاتينية، ومع أولى هدايا المغتربين لها، قالت لهم: «أشكركم، ولكن أرجو أن تتكرموا وتحوّلوا الهدايا مساعدات إلى جمعية المكفوفين في لبنان!»... وكانت رفضت بعناد أن تحمل مدرسة إغاثة الضرير في بعبدا اسمها. ويوم الاحتفال بوضع الحجر الأساس في التاسع من تشرين الأول 1958، قالت: «لا أريد أن يتأثر هذا المشروع بخلافة الرؤساء وخلافاتهم»...

بعد انتهاء ولاية الرئيس كميل شمعون، استمرت السيدة زلفا في دعم الجمعية، وجمع الأموال لتطويرها إلى أن اقترب المرض منها، وبدأت تتغير ملامح وجهها، من دون أن تؤثر على ابتسامتها التي ظلّت مشرقة، وظلّت هي متمسّكة بإيمانها وصبرها وتواضعها وأناقتها، وحين كان يتصل بها أحدهم للاستفسار تردّ:

ـ «كتر خير الله، ولكن قلبي يعتصر عندما أرى في المستشفى شبانًا وصبايا مهدّدين. أنا عشت، وهم لم يروا شيئًا بعد».

... وتوقف الكلام، والناس في الاحتفال بعيد انتقال السيدة العذراء:

غابت زلفا شمعون، اسدلت الستارة.

***

في الذكرى الأولى لغيابها نشرت «الريفو دي ليبان» رسالة بالفرنسية، وجهها الرئيس شمعون إلى رفيقة عمره، صيغت بأسلوب أدبي عاطفي، استهلها باستشهاد من الكونت دو ليل، وخُتمها بأبيات لأفرد دو موسيه.

في الرسالة كشف أن السيدة زلفا كانت أوصت بأن تسلّم جثتها إلى أحد المعاهد العلميّة للافادة منها في مجال البحوث، ثم أن تُحرق وينثر رمادها. ولكن الرئيس خالف الوصية:

«... هل عرفتِ؟ لقد خالفت إرادتك مرتين وأطلب منك سماحًا.

في الوثيقة التي دفعتها إلي في رويال مارسدن هوسبيتال في لندن، كانت وصيّتك (عشية الجراحة الكبيرة). طلبت أن تُسلّم جثتك إلى الطب لمنفعة العلم، ثم أن تحرق وأن ينثر رمادك.

إنها لاحدى السمات البارزة في خلقك، وفيها ألاقي من جديد الكائن الرائع الذي عرفت. أن يكون فكرك اتجه إلى تقدّم العلم والى إسعاد الأجيال الآتية في اللحظة الحاسمة التي كنتِ فيها بين الحياة والموت. فطوال السنوات الأربعين لزواجنا، كنتِ دائمًا للآخرين ولم تكوني يومًا لنفسك. كنتِ في استمرار مُلكًا لزوجك، لبيتك، لأولادك، لأحفادك، لدارك... وكلّ صغيرة فيها هي من وحيك، لحديقتك الواسعة... وكل شجرة فيها وكلّ زهرة نبتت أو نمت بفضل عنايتك (...).

«أن تُحرقي»! أن يُنثر رمادك! أن تغيبي في ذروة التألق! تلك كانت إرادتك الأخيرة. والعكس من جانبك كان سيثير عجبي. في حياتك كنتِ تتحسّسين الجمال، وتتعبّدين له في آن. خلال حفلة موسيقيّة كنت تكتشفين عفويًّا أجمل الموسيقى. وفي معرض فنّي كنت تتوجّهين بلا تردد نحو أجمل لوحة، أو أجمل منحوتة. حرصك على النظافة الخلقية، كما حرصك على النظافة الجسديّة، كانا فوق كلّ حرص. وهكذا دفعك التفكير في أن وجهك سيشوه وأن جسدك سيتعفّن (...) فضلتِ النار المطهرة، النار الآكلة التي تستطيع أن تقيك الانحلال الرهيب.

ولكن، هل كنتِ حقًا في حاجة إلى هذه النار وإلى هذا التألق؟

ألم تجتازي، خلال مرضك الطويل الذي تحملته بتسليم بطولي، وفي الآلام التي صبرت عليها بشجاعة تفوق قدرة الانسان، الامتحان المطهر الذي صهر منك الروح وحوّل الجسد إلى قشرة شفافة لا أرضية؟

ألم تطبع حياتك، من الحدّ إلى الحدّ، تلك الرفعة التي منها سمفونيّات المؤلفين الكبار؟

خالفت إرادتك لأنني كنت أشعر أنك، إذ تحرق جثتك، تدخلين نهائيًا في العدم وفي النسيان، وهذا أكثر هولاً. أردت أن أخلّد ذكراك، أن تكون لي محجّة ولأولادك ولأحفادك ولأصدقائك وللآلاف الذين ساروا في موكبك. أردت الزهور البيضاء التي كم أحببتها أن تتفتح على قبرك من فصل إلى فصل، ومن سنة إلى سنة، إلى دهر الداهرين».

***

أربعين سنة، عاشت مع الزوج المحامي والسفير والنائب والوزير والرئيس والزعيم... وأربعون سنة مرّت على الغياب، ومرّت وجوه كثيرة، وتناثرت ذكريات ويبست ذكريات... وظلّ ذكرك في النغم واللون والريشة والمنحوتة والحركة المسرحية، وفعل الخير، ينبعث عطرًا، يا المشرقة مثل فجر، والمتواضعة مثل بنفسجة، والرقيقة مثل نسمة صيف مذهّب باسمك في دفاتر الأيام.

*

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=8548