جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

ألخبز والأدب(2)


إيلي مارون خليل
08/06/2011

كيف يُشقي الفنُّ الجميلُ، وكيف يُسعِد!؟ وتاليًا: كيف يكون مأساةَ المُتعةِ، أو مُتعةَ المأساة!؟ أوَيمكنُ أن يَنتُجَ الكلامُ المأسَويُّ من صميم المُتعة؟ أو أن تَنتُجَ المُتعةُ من صميم المأساة؟ أليس في الأمر غرابةٌ قائمة على التَّناقُض؟

                يُشقي الفنُّ الجميلُ صاحبَه، أي الشّاعرَ أو الأديب أو الرّسّام أو النّحّات أو الموسيقيّ أو...، قبل أن يُسعِدَ المتَلَقّي المتذوِّقَ: قارئًا أو مُشاهدًا أو منصِتًا أو... فكيف يكون ذلك، ولماذا، وحتّام؟

                ألفنُّ الجميلُ يُشقي قبل أن يُسعِدَ. ليتحقّقَ الفنُّ، بأسلوبٍ مُشرِقٍ جميلٍ مؤثِّرٍ موحٍ، يكون الفنّانُ يُعاني: تجربةً وجَمالا. معاناةُ التّجربةِ اختيارٌ/عيشٌ/اختبار.                                            ألاختيار؟ فأنتَ تختار "موضوعًا" عديدَ الملامحِ والاتّجاهات، ترى إليه من جوانبه كلِّها، بما فيها من ثنايا، "تعالجُه" بدقّة وعمق ورؤيا: وصفًا وتحليلا. قلتُ: "تعالجه"، أي أن تكونَ "طبيبَ" جَمالٍ، ويكونَ موضوعُك "مريضَك"! فأنت تعطف عليه وتحنّ، تتمنّى له الخيرَ الصّحّةَ السّعادةَ الجَمال. ولك "المعالَجةَ" الجَماليّةَ الناجحة. تتعذّب لـ"تعالجَه". فقد تضطرّ للتّجربة. ألتّجربةُ قد تنجح، من فورها، وقد لا. فتُعاود. في كلّ معاوَدةٍ غُصّةُ روحٍ، وبُحّةُ وِجدان. منتهى الألم.                                              والعيشُ؟ فأنت تستغرقُ في موضوعك استغراقًا كلِّيًّا لا محدودًا. تُقفِل، أو تقفَل، حواسُّك. فلا تعود تعي سواه. كأنْ لا سواه. منتهى التَّوَحُّد فيه، فلا ترى إلاّ هو، لا تُنصِت إلاّ إليه هو، لا تشمّ إلاّ هو، لا تذوق إلاّ هو، لا تلمس إلاّ هو. لا تقيم إلاّ فيه، لا يُقيم إلاّ فيك. لا يكون له إلاّ أنت، لا يكون لك إلاّ هو! وحيدان، بل وحيدٌ بذاتين. ولا فَقر، إنّما الغنى كلُّه. لكنّك عميقَ الشّقاءِ تكون، كثيرَ الشّجَن، بعيدَ غَوْرِ المأساة.                                                                                                         والاختبار؟ إختبارُ الاختيار، واختبارُ العيش، وفي كليهما صعوبةٌ تؤلم. إختبارُ الاختيار؟ أن تقلق، عميقًا، أمام احتمالات محيِّرة. محيّرة لكونها متشابهة. هنا تكمن الصّعوبةُ القاسيةُ المؤلمةُ المُشقية. تتأرجح كأنّك في قلب العاصفة. لا تجرؤ على القرار، ويجب أن تُقرِّر. وليس لك متّسَعٌ من الوقت. تكون في سباقٍ بين الوقت وواجب السّرعة في اتّخاذ ما يجب. تحيا الشّقاء. واختبارُ العيش؟ أن تلتزمَ الحالةَ، حالةَ موضوعِك الّذي "اخترتَ" أو... يكونُ قد "اختارك". إلتزامُ الحالةِ، هذا، وعيٌ ولا وعيٌ، معًا يظهران في الأسلوب. ألعملُ على الأسلوب يُتعِبُ، يعذّب. لكنّ النّتيجةَ تُفرِح، تُسعِد. في هذا تكمن مأساةُ المتعةِ، أو متعةُ المأساة.

                فأنت، وأنت تَشقى وتتألّم، تشعر، وفي الوقت عينِه، بمتعة ما أنت تُنتِجُ من أدبٍ أو رسم  أو موسيقى... هذا الشّعورُ يجعلُك تحتملُ مأساةَ ما أنت فيه أو عليه. ألاحتمالُ عذابٌ واعٍ. مِثْلُ هذا يجعلُك تلامسُ الفرحَ، فرحَ متعةِ الخَلْقِ الفنّيّ. يجعلُك منتظِرًا خلاصَك النّفسيَّ، الوِجدانيّ، الرّوحيّ، الآتي، حتْمًا، ممّا أنت غارقٌ فيه، تعيشُه، وفيه تتقلّبُ مأسويًّا، "تتقلّى" عذابًا. هذا الانتظارُ القلِقُ/العذبُ، المُتَمَلمِلُ/الجميلُ، الآسِرُ في أيّ حال، سرُّ احتمالِك وسرُّ احتفالِك بـ"مَنتوجك"، "مُنتَجِك" الفنّيّ الخَلاّق. به تسعدُ قبل يُخلَق، تستمتعُ قبلَ يُمَتَّعُ المُتَلَقّي الذّوّاقة. تُريدُ، أنت، "خَلْقَك" الفنّيَّ الجميلَ، هذا، ذاتًا لك ثانية مُغايِرة/مُماثِلة معًا. مغايِرة لأنّك ترفضُها كما هي، فأنت تتوقُ إلى ما ينبغي أن تكون عليه، رافلا فيه، وهو قصيٌّ. وأنت تحلُمُ في أن تصلَ ذاتُك الإنسانيّةُ والفنّيّةُ إلى المِثاليّة. لذلك هي مُغايرة. لأنّها مُغايرةٌ، فأنت ترغب في تغييرها نحو الأفضل. فالعملُ الفنّيُّ عملٌ على النّفس. صَقْلٌ لها. ارتقاءٌ بها نحو "الحالة" النّورانيّة. فالفنُّ، في بعض وجوهِه، إشراقٌ من النّفسِ وعليها، به تستنير وتُنير، تسمو وتُسمي.

                  وعليه، ألا يكون الأدبُ، وتاليًا الفنُّ، خبزًا تَبحثُ عنه، وأحيانًا فيه، فئةٌ من النّاس، ترى فيه غذاءها الفكريَّ والعاطفيّ والرّوحيّ، ما يرقى بها، أفرادًا وجماعاتٍ، هنا وفي كلّ هنا، الآن وفي كلّ آن!؟

                ولكن، كيف ترى الفئةُ الأخرى إلى الفنّ؟ ومَن تكون هذه الفئةُ الأخرى؟ وكيف تكون؟ ولماذا؟ وحتّامَ؟ وما قيمة ذلك كلّه!؟

                ... ولهذا، أيضًا، حديثٌ آخر.

------------------------------------------------------------

وطى الجوز الأحد 22/5/2011




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=8215