جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

ألخبز والأدب(1)


إيلي مارون خليل
26/05/2011

أنتَ تقرأُني!؟ فأنتَ تُشاركُني الخبزَ الأكثرَ أهمّيّةً، وهو الأبعدُ مَدًى، الأصفى رؤًى، الأغنى إشراقًا، الأعمقُ أثَرًا.

              ألأكثر أهمّيّةً، لأنّه الأكثرُ تغذيةً. يُغَذّي الرّوحَ، النّفسَ، الفكرَ، الخيال... وهذه ترتقي بالإنسان، تُدنيه من إنسانيّتِه، تُذيبُه فيها. فالرّوحُ المُغَذّاةُ، تقطرُ إحساسًا، تَفيضُ محبّةً، تؤاخي الجميع. الإحساسُ الحقُّ، نُبلُ قِيَمٍ تَسمو بصاحبِها وبالآخَر، معًا. هذه إحدى غاياتِ الفكر، إذًا البشريّة. ألمحبّةُ الكاملةُ، تَدَفُّقُ النّفس، تامّةً، صادقةً، منتشيةً بذاتها وبالآخَر، معًا. ألأخُوّةُ الشّفيفةُ، انتقامٌ من الفرديّةِ الأنانيّةِ، عَيشُ مُشارَكةٍ وِجدانيّةٍ صافية. والنّفسُ المُغَذّاةُ، تَجُلُّ تَواضُعًا، تَسمو امتلاءً، تُصادقُ الجميع. ألتَّواضُعُ الرّاقي، إجلالٌ للذّات وللآخَر، احترامٌ للذّات وللآخَر، صفاءٌ في الرّوح النّفس الفكر. ألامتلاءُ السّليمُ، خصبُ مواهب، تَعَدُّدُ رؤى، انطلاقُ الذّات إلى المدى الأرحب. مُصادَقةُ الجميعِ، مُصالَحةُ نُفوسٍ، استِقامةُ نوايا، تَناغُمُ أهداف.   

              ألأبعدُ مدًى، لأنّه الأكثرُ تأثيرًا. كَونُهُ الأكثرَ تأثيرًا، يَعني أنّه الأكثرُ انفِعالا وتَفاعُلا وإيحاءً. ألانفعالُ، في هذه الحالة، لا يكونُ إلاّ إيجابيَّ الملامحِ والتَّوَجُّهات. إذًا فالانفعالُ، هذا، ارتقاءٌ بالمَقاصد، بالغايات، بالإرادة. فالإنسانُ بِناءٌ مُتَوازِنٌ، مُتَكامِلٌ، بَنّاء. ألقَصدُ النّظيفُ رَغبةٌ، شديدةٌ، بالفرح. لا يكونُ هذا، إلاّ عَبْرَ التَّحقيق. كلُّ تحقيقٍ ناقصٌ لأنّه يَصبو إلى الأكثر، الأبعد، الأهمّ. ألغايةُ النّبيلةُ، ارتفاعُ الذّاتِ الكلّيّةِ، بكلّيّتها، نحو الأمنيات، الأحلام، الرّؤى... كلُّ ارتفاعٍ ارتقاءٌ، واعٍ ولا واعٍ، نحو الخيرِ الأبقى، على الصّعيدَين الخاصِّ والعامِّ. والإرادةُ العازِمةُ، انتفاضةُ نفسٍ، دائمةٌ، حَيويّةٌ، لا إلى تَراجُعٍ أو وَهَن.  

              ألأصفى رؤًى، لأنّه الأكثرُ اشتعالا. ألذّاتُ المُشتعِلةُ، دائمةُ النّبْضِ الحَيَويِّ، الحيِّ، الرّائي. مِثْلُ هذا، لا إلى انطِفاء. لا إلى خُمود. لا إلى يَباسٍ. لا إلى موت. ألنَّبْضُ الحَيَويُّ، الحيُّ، مُشتعِلُ الرّوحِ، مُشعِلُها، في ذاته وفي السِّوى. هذا انعِتاقٌ منفتِحٌ، واعٍ، حرٌّ، مسؤول. والنّبْضُ الرّائي، شُموليُّ النّظرةِ الثّاقبة، ثابتُ الهدفِ الواثقِ، إصْلاحيٌّ، فهو أصيلٌ، ناضجٌ، عاصفٌ محبّةً راقيةً، نبيلة. ألنّظرةُ الثّاقِبةُ، نتيجةُ إعمال فكرٍ، خلاصةُ تجاربَ ناضجةٍ، عديدةٍ ومنَوَّعة. ثاقبة؟ فهي قويّةٌ، نافِذة. قويّةٌ بالرّؤية الواضحةِ، النّاضجة؛ بالرّؤيا الشّفيفةِ، الصّافية. نافذةٌ بعمقِها المُطَمْئن، بصوابها البعيد. وهكذا، فالنّبْضُ الرّائي، الثّاقبُ، القويُّ، النّافذُ، ثابتُ الأهدافِ الواعيةِ، الواعدةِ، الوافرةِ الخير. لا يمكنُ الخيرَ إلاّ أن يكونَ خاصًّا عامًّا، دائمًا ومعًا، هنا وهنالك، بهذا يكونُ تامَّ المنفعةِ العامّة.

              ألأغنى إشراقًا، لأنّه الكثيرُ الشّفوفيّةِ، الأصيلُ النّظرةِ، البَهيُّ الأجواء. ألأدبُ كثيرُ الشُّفوفيّة؟ ولو هو في قلب الواقعيّةِ الكثيفةِ السّوادِ. هو يُحلِّلُ، لا بحِياد. ولا تُطلَبُ الحِياديّةُ، في الأدب. ألعِلمُ، بأنواعه، حِياديٌّ، بارد. والأدبُ؟ حارٌّ مِثْلُ القلبِ النّابضِ صدقًا. حميمٌ مِثْلُ هَمسِ الذّاتِ في ذاتها. من هنا كثرةُ الاتّجاهات الأدبيّةِ، المدارسِ، المَذاهبِ، الأنواعِ، الأنماط... من هنا وَفْرةُ الدّلالاتِ، الرّموزِ، الوظائفِ، الصُّوَرِ، المستوَيات... ألعِلْمُ يخدمُ الجسدَ: صحّةً، راحةً، رفاهًا... والأدبُ يخدمُ الفكرَ، الرّوحَ، الخيال...ألعِلمُ يُقعِدُك في مستوى الواقع. ويُطلِقُك، الأدبُ، خارج ذاك الواقع. ألعِلمُ "يربط". الأدبُ "يُحرِّر". ولا مَجال، بالنّسبةِ إليكَ، للوقوف في حَيرة الاختيار. 

              والأدبُ أعمقُ أثرًا؟ هو يجعلُنا نُدرِكُ أنفسَنا. يجعلُنا نُدرَك. أنت تُدرِك نفسَك، وأنتَ مستغرِقٌ سفَرًا يُدعى قراءةً؛ وأنت مُنْصَبٌّ تحليلا يُدعى تأويلا. ألقراءةُ تأويلٌ غنيّ. هذا يجعلُك تدرِكُ قدراتِ نفسِك الذّهنيّةَ. تكتشف أنّ غناك من غناها، وتكتشف العكس. قُدُراتُك الذّهنيّةُ، هي حقيقتُك الإنسانيّةُ الحقيقيّة. بها أنت ذو قيمة. ذو أهداف. ذو رؤى. ذو احتمالات. أيُّ احتمالٍ مشروعُ نجاح، فأنت تنطلِقُ من قُدُراتِكَ الحيّةِ، الحُرّة، بوساطتها أنت النّاضجُ، الواعي، الواثقُ. وبالأدب تدرَك. فالقارئُ المثقَّفُ، الغنيُّ الثّقافةِ، والعميقُها، يُدرِك ذاتَك/ذواتِك، من خلال قراءتِك. يُغنيك. يُغني أدبَك وهو يكتشفُك. فالأدبُ، إذًا، كَشْفٌ واكتِشاف، من خلالهما وعَبرَهما وفيهما، تُفهَمُ قدرةُ الكائنِ في المعرفة. أليست المعرفةُ هي الأهمّ؟ تُشقيك وتُسعِدُك. تُحَفِّزُكَ في أيِّ حال: فردًا وجماعة.  

              أنتَ تقرأُني!؟ فأنتَ تُشعِلُني سعادةً. قراءتُك لي خبزي اليومي، وخبزُك، أنتَ أيضًا. بك أحيا حياةَ الرّوح والفكر. وبي تحيا حياةَ الرّوحِ والفكر. كلُّ قراءةٍ حياةٌ للكاتب والقارئ. ألكاتبُ، أنتَ تُحييه في ذهنك، فَهمك، تَحليلِكَ، تأويلِك...إلَّم يُقرَإِ الكاتبُ، فكيف يكون موجودًا، حيًّا، فاعلا!؟ والكاتبُ، هو كذلك، يُحييك. يدفعُك إلى الانفعال، التّأثُّر، التّفكير... كلُّ كتابةٍ، كلُّ قراءةٍ، احتمالات.

              ... وينبغي أن أوضحَ: ألأدبُ، وتاليًا، أيُّ فنٍّ جميل، يُشقي ويُسعد، الآن وكلّ آن، هنا  وكلّ هنا. وفي هذا مأساةُ المُتعةِ، أو مُتعةُ المأساة. ألسّؤال: كيف يكون الكلامُ مُتعةً، وهو ينبُع من قلب المأساةِ؛ أو كيف يكون الكلامُ مأسويًّا، وهو يتدفّقُ من صميم المُتعة؟

              لهذا الحديث تتمّة.


وطى الجوز 2 نوّار 2011

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=8163