جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون |
From site: http://www.jamaliya.com |
سامر أنور الشمالي | 20/01/2011 |
"نستطيع تناول المكان أو الزمان، كلّ على حدة لدى دراسة أية مجموعة قصصية، ولكنّ تناولهما معاً قد يسهم في إثراء تلك الدراسة. فثمة علاقة متلازمة بين الزمان والمكان، وما الفصل بينهما إلاّ لتبسيط البحث واختصاره، فالزمان هو البعد الرابع للمكان ـ حسب النظرية العلمية ـ بل قد يكون السرد القصصي قائماً على هذا التلازم العضوي بين الزمان والمكان، لهذا قد يتعثّر الفصل بينهما لدى تشريح النص، وهذا ما يتضّح لدى دراسة كتاب (وجه أرملة فاتنة) للقاصة الإماراتية (فاطمة المزروعي) حيث نجد بوضوح أنّ المكان والزمان يحضران معاً في تلازم علاقتهما الجدلية عبر أطوار وصور عدّة ضمن السياق العام لبنية الحدث القصصي، وعبر التكوين النفسي للشخصيات القصصية." يبدأ التحقيب الزمني في هذه المجموعة منذ الطفولة، حيث البراءة الفطرية المندهشة، ومحاولة اكتشاف العالم الجديد، ولكن سرعان ما تقع الصدمة الأولى مفسحة المجال لصدمات أخرى، فالأمكنة الأولى لا تحقق السعادة المرجوة، فالطالبات يخفن من سطوة المعلّمات وقسوتهنّ، وبذلك تنشأ بطلات المجموعة خائفات أنّى حللن، وفي أي زمان كنّ. أما إذا كانت الطفلات في المنزل حيث المكان الآمن، فإنهن محرومات من اللعب الجميلة الموجودة في مكان آخر، فثمة شعور دائم بالحرمان يتصاعد كلّما مّر الزمن على المرأة السجينة داخل حيز مكاني محدود. فالمرأة تخشى مرور الزمان الذي يقتات ببطء جسدها المفتقد إلى حب يدفئ الأحاسيس المتوقدة، وإلى عاطفة تروي قلبها الظامئ. ورغم ذلك نادراً ما تقف تلك المرأة على حدود الخطيئة، أو تلتبس تلك المقاربة في غموض غير مصرح به. نجد أجساد النساء مرهقة، ومتعبة، أو تعاني أمراضاً لا شفاء منها في أسوأ الأحوال، وفي كل الحالات تعاني المرأة آلامها طوال العمر دون أن يشاركها أحد أحزانها. وربما تربّص الموت بالبطلة منذراً بنهاية الزمن لديها، وخروجها من أماكن الأحياء، إلى مقابر الأموات حيث المكان دون زمن. كما نجد الموت، أو الفراق، لا يحاصر المرأة بمفردها، فهو قد يتربّص بأطفالها الذين قد يرحلون عنها إلى مكان آخر بعيداً عنها، أو يذهب إلى مكان لا يغادرونه حيث المقبرة. والرجال أيضاً الذين لهم صلة بتلك النساء قد يموتون أيضاً، في حال لم يحدث الفراق بالابتعاد عن المكان الذي تقبع فيه. أغلب القصص ترصد الزمن الحياتي للمرأة الوحيدة، والظروف الاجتماعية التي تفرض عليها عزلة مكانية تفصلها عن الناس، وعزلة زمنية تفصلها عن صخب الحياة اليومية. وحتى في حال كان بطل القصة رجلاً فإننا نجده يعاني أيضاً وإن اختلفت نسبياً تلك المعاناة، فالرجل أيضاً يشكو من الوحدة والحرمان والحزن، ومن عدم تفهم الشريك له، ولعلّ الاختلاف الوحيد أن أغلب الرجال مدمنون على قراءة الجرائد والمجلات. (1) نجد التواشج بين المكان كحيز مادي والزمان كفضاء روحي بوضوح في قصة (عندما يأتي المساء) حيث يشكلان معاً حالة نفسية وجسدية لدى بطل القصة: (الأصوات الصاخبة ترتفع من مقهى صغير في وسط ذلك الزقاق وبيوته الحجرية القديمة، قد ترفع ناظريك أحياناً مثلي فتحملق في الوجوه التي اعتادت الجلوس في ذلك المقهى، عندها ترى ملامح أعمل الزمن فيها فأسه. ص9). ونلحظ في المقبوس السابق ترابط الدلالات الزمنية/ المكانية، واشتراكها معاً في تقديم الفكرة ذاتها من أكثر من جانب، فالبيوت الحجرية القديمة هي الشكل الخارجي للزقاق، مثلما الوجوه هي الشكل الخارجي للإنسان، وقد أعمل الزمن فيهما فاسه، فكانت تلك الوجوه التي علتها التجاعيد دالة على مرور الزمن شبيهة بتضاريس الأحجار التي تعرضت بدورها للعوامل الزمنية. ولابد من الإشارة إلى أن بطل القصة قد يرفع ناظريه أحياناً لأنه ملَّ التحديق في ذلك المشهد المكرّر أمامه منذ سنوات، أو لعله يريد إقامة علاقة ما مع ذلك المكان رغم أن الزمن قد حوّله إلى شبه أنقاض. (2) عنوان القصة السابقة يحمل دلالة زمنية صريحة، أما عنوان هذه القصة فيحمل دلالة زمنية ضمنية (كل الأيام تتشابه) وكلا العنوانين يتشابهان أيضاً. إذا كان المكان في القصة السابقة جمع والداً وابنه، فإنه في هذه القصة جمع أمّاً وابنتها، فهل تغيير جنس الشخصيات يعطي نمطاً مختلفاً لعلاقة الآباء والأبناء في زمان ما؟: (كانت تشعر بأن هذه الأم سوف تظل تراقبها، مراقبة أبدية، ولن ينتهي هذا الحصار أبداً، إذا ما ظلت على قيد الحياة). ص22. هنا تبدو رابطة القرابة أكثر تأزماً، حتى إن بطلة القصة تتمنى أن ينتهي زمن الأم في المكان الذي جمعهما. وثمة تشابه في طبيعة الشخصيات رغم اختلاف الجنس، فالأم تراقب ابنتها كما راقب الأب ابنه، وإن لم تستخدم العنف الجسدي، لأن استخدام الضرب خاصية ذكورية في القصص، بينما العنف الأنثوي مشاعر مكبوتة تعبر عن نفسها بطرق ملتوية غير مباشرة. عطلّت الأم فيما يبدو زواج ابنتها كي تبقى تحت أنظارها، لهذا كرهت البنت أمها بعد فشل علاقتها مع الرجل الذي أحبت، وكرهت المكان الذي تعيش فيه فلم تعد تعنى بتنظيف المنزل: (تذكرت وحدتها، وكيف تقضيها في مساحات هذا المنزل الصغير؟ لقد حفظت كل ركن فيه، كل مساحة ضاع لونها مع الزمن). ص23. وبعدما فقدت الشخصية العلاقة الحميمة مع المكان الذي نشأت فيه، تحول المكان إلى سجن له نافذة صغيرة تطل على العالم الخارجي فحسب. والزمن يأتي كالقصة السابقة أيضاً ليؤكد ثبوت الزمن وتحجره: (تأملت بقايا التقويم المعلق في غرفتها، كل الأيام تتشابه في رتابتها...).(ص24). تنتهي القصة ببكاء سلبي بعد ما أدركت بطلتها أنه لن يحدث في حياتها أي تغيير يذكر في زمنها، ولن تنجب أطفالاً يعيشون في المكان الذي تعيش فيه. وهذا يعيدنا إلى القصة السابقة، فالزمن لا يغير طبيعة الحياة في المكان ذاته. (3) لا تبتعد قصة (قلب دافئ مثل قلبي) عن الدلالات الرئيسية في القصتين السابقتين، فالمكان له حضوره البارز في هذه القصة أيضاً، بل ثمة تأكيد على أهميته عبر استخدام مفردة (هنا) التي تحدد مكاناً بذاته: (أنا جالسة هنا في بيتي الصيفي وأمام حديقتي المفضلة، أنظر إلى السماء والأشجار). ص74. ولا يغيب الحضور الزمني أيضاً، فثمة علاقة جدلية تربط الزمان/ المكان بالشخصية: (كم أكره حرارة الصيف، وشمسه الحارقة، على بشرتي المسكينة، وجسدي المسكين، آه، إنه دوماً يزأر كلما حل هذا الصيف الملعون). ص74. وفصل الصيف يحفز الجسد، ويطلق المشاعر المكبوتة التي تحاول تلبية حاجاتها، ولكن هذا غير متاح، فالمرأة التي يفترض أن تعيش السعادة في المكان الذي اختارته تنتظر الموت بعد إصابتها بالمرض اللعين، لهذا بدأت علاقتها بالمكان تبهت مع مرور الزمن: (لقد أهملت هذه الحديقة في الآونة الأخيرة ولم أعد أهتم بها كعهدي السابق). ص94. مثلما أهملت بطلة القصة السابقة تنظيف المكان من حولها. الشخصية ترتبط بالمكان بكل ما فيه، وبغض النظر عن طبيعة العلاقة مع المكان، سواء أكانت مبهجة أم كئيبة، بل هي حزينة عادة. وعندما يدنو الموت منهياً زمن الحياة تتقوض تلك العلاقة، فلا يعود للابنة الحجرية وجود، أما الزمان فيقاس بالعمر القصير للزهور الذابلة التي تدنو من الموت بدورها. لكن المختلف أن بطلة هذه القصة في صغرها كانت تحلم أن يمر الزمن سريعاً حتى تكبر ويأخذ جسدها ملامح الأنوثة كي تعيش حالة حب، وأن يحدث كل هذا قبل بلوغها الأربعين، لأنها كانت ترجو ألا يمتد بها الزمن لما بعد سن اليأس. ولاشك أن هذا لم يكن وعي الطفلة في تلك المرحلة العمرية، بل هو إسقاط مسبق من المؤلفة التي تجعل مأساة المرأة هي لحظة عجزها عن الخصب، لهذا كانت بطلة القصة السابقة تبكي لأنه لن يتغير شيء في حياتها، أي أنها لن تنجب أطفالاً، بينما بطلة هذه القصة مات طفلها، ثم مات زوجها، وبذلك توقفت الحياة لديها في المكان ذاته. لا تتقاسم هذه البطلة المكان مع أحد والديها، بل مع خادمة غريبة قادمة من مكان بعيد من آسيا. وهي تراقب تلك الخادمة كما تراقب الأم ابنتها في القصة السابقة، فثمة دائماً علاقة غير مريحة بين شخصيات القصص التي يجمعها مكان واحد، كالقصتين السابقتين. لهذا ليس مستغرباً أن تعاني بطلة هذه القصة المزيد من الوحدة بعد ما كف الجيران والأصدقاء عن زيارتها. النماذج القصصية الثلاثة السابقة تبرز أهم الملامح والسمات والإشارات الزمنية والمكانية لدى الكاتبة (فاطمة المزروعي) التي تميزت بقصصها القصيرة المستوفية لشروطها الفنية ضمن رؤيتها الخاصة، فأسلوبها يتمايز بالتكثيف الذي لا يهمل التفاصيل الصغيرة التي تضفي على أحداث القصة حيوية سردية مشغولة بعناية، لهذا تفرد سردها بالرشاقة والسلاسة، وأكدّ هذا قصصها التي تميل إلى القصر، إضافة إلى طريقتها الخاصة باختيار موضوعات من البيئة الاجتماعية تناسب نهجها السردي، وهذا ما أضفى على القصص بصمتها الذاتية.
العنوان: وجه أرملة فاتنة
|
Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=7597 |