جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

هنري زغيب: ألشِّعرُ معه وُلوجٌ إلى الرّجاء


إيلي مارون خليل
17/09/2010

 

ليلةُ شِعرٍ(*)، في مثل هذه الأيّام الشّاحبةِ، المُلَوَّثةِ، المُلَوِّثةِ، الضّاغطة!؟

     ليلةُ شِعرٍ، نعم، وفي مثل هذه الأيّام الشّاحبةِ، المُلَوَّثةِ، المُلَوِّثةِ، الضّاغطة!

    وما الذي يَلُمُّ شَتاتَنا، ويجمعُ بَقايانا، ويُلَوِّنُ حياتَنا، ويُزيلُ آلامَنا، ويُضيءُ نَوايانا، ويُكثِّفُ آمالَنا، ويُضاعفُ إيمانَنا، إلّمْ يكنِ الشِّعر!؟

    في لَمِّ شَتاتِنا، تَوحيدٌ لجهدِنا، فنقوى بالعمل في سبيل الذّات والآخر.

    في جمْع بقايانا، سَكْبٌ لقوانا في اتّجاه الخير: فرديًّا وجَماعيًّا.

    في تَلوْين حياتِنا، نتعطّرُ بالفرح، مصدرِ الطّاقةِ الخَلاّقةِ، مشارَكةً للخالق.  

    في إزالة آلامِنا، نُمسَحُ بمَيرون الطَّهارةِ اقتبالاً للنّعمة الكبرى: الحياة... بما يُغْنيها ويُخصِبُها ويُنَوِّعُها.

    في إضاءة نوايانا، نُسرِجُ خيولَ المحبّة الحيّةِ، الفاعلةِ، القادرةِ، المُشرِقةِ، الجاعِلَتِنا مُشْرِقينَ أنقياء.

    في تكثيف آمالِنا، تَفَجُّرٌ فينا لينابيع الطُّموح اللا إلى نُضوب.

    وفي مُضاعَفة إيمانِنا، وُلوجٌ إلى فضاء الرّجاء اللا حدود له.

    إنّها أعجوبةُ الشِّعر!

    حياةٌ لا أعاجيبَ فيها، حياةٌ/يباس. إنتظارُ الأعجوبةِ إيمانٌ بحَتْميّةِ حُصولِها.

    هذا الإيمانُ، لا يسكبُ الفرحَ فينا، بل يجعلُه منّا ينبثقُ، فينا يَغلي ويفور، وإلينا يصل عاصفًا مُحْيِيًا.

     مثلُ هذا الشِّعر الـ إليه ننهد، هو شِعر الصّديق هنري زغيب.

    صديقي هنري لا يُحاول "كتابةَ" الشِّعر. ولا مرّةً أرادَ المحاولة. في الإرادة اغتصابٌ للكتابة. فالكتابة، خصوصًا كتابةُ الشِّعر، فَيضٌ لا إراديٌّ. وهو فَيضٌ واعٍ ولاواعٍ معًا. صِناعيٌّ وتلقائيٌّ معًا. ولا تَناقُض: صِناعةُ الشِّعر بسيطةٌ، عفويّةٌ، تَحدثُ من دون قَصدٍ، من دون انتباه. وهنا بعض الفارق بين الفنّ الجميل والآخَرِ الصِّناعيّ.

    أعرفُ هنري منذ الطّفولتَين، طفولَـتَينا.

جاران في صربا، لبِسْنا معًا ترابَها والغُبار، ونَشَقْنا عطورَها والأزهار. ما من مَطْرَحٍ فيها ليس لنا فيه هَمْسٌ أو بَوحٌ أو نَهْدةٌ أو أمنية.

ويعرف هنري وطى الجوز، "وطى جوزي" أنا. في شتائها يعرفُها وفي ربيعها، في صيفها والخريف. هناك، أيضًا، تَعرفُنا ونعرفُها المطارحُ كلُّها.

ولأنّي أعرف هنري، أعرفُ أنّ شِعرَه يعادل حياته. ما تكلّفَ فكرةً ولا صورة. ما بحث عن معنًى أو كلمة. تَتَهادى إليه الكلماتُ مَشْحونةً بمعانيها، بموسيقاها، بِصُوَرِها والرّؤى. لكنّه يعاوِد العملَ عليها. أو هي تَنْدَهُه أنْ: "عُدْ إليّ، نَقِّني من بعض ما ليس منّي". ويفعل هنري. بفرحٍ وحِرَفيّة يفعل، فيُنتِجُ القصيدةَ الجديدةَ من قلب الأصالة، المتجدِّدةَ من قلب التُّراث. ويعرف، بلا وهَن ولا ضعف، كيف يؤاخي بين الأصالة التُّراثيّة والتّجَدُّدِ البَنّاء.

لذا، لشدّة ما أعرفُ كم شفيفٌ هو، شعرًا وحياةً، تلمّستُ كيف كان شِعرُه في الغَزَل النّقيّ الجميل، المصقولِ كلمةً وصورةً ومعنىً وإيقاعًا، وكيف انتقل شِعرُه في كتابه الأخير: "ربيع الصّيف الهنديّ"، من شِعر الغزَل الّذي قُلتُه، أعلاه، صناعيًّا ولو جميلاً، إلى شِعر الحياة المُعاش، تابعتُه في هذه الأُمسية يقرأُه بصوته وعينيه ويديه وأعصابِهِ جميعِها، لقوّة ما يظهر واضحًا أنّه "يعيش" قصائد/"حَيواتِ" هذا الكتاب.

هنيئًا له هذا "الحبّ الحقيقيّ الّذي جاءه في السّتّين"، كما قال، ليبقى معه حتّى آخر العمر. أطال الله بعمره وبنضارة حبّه كي يحياه كلَّه، ويكتبَ شِعرَه فيه، بَعْدُ، أكثر.

    لستُ، هنا، في معرض دراسةِ شِعرِه. حَسْبي الإضاءة على ما لاحظتُه في تلك الأمسية، من شعر قويٍّ في "الحبِّ الحقيقيّ" جعَلَنا ندخل فضاءَه الشِّعريَّ ونحنُ أكثرُ قربًا إليه ومنه، فنغوص فيه ومعه، ما يجعلُنا أكثرَ انسِجامًا، ويجعلُهُ أغْنى إيحاءً، وأبْعدَ تأثيرًا.

    أليستْ هي هذه بعضُ الغايةِ من الاستماع إلى الشِّعرِ، الشِّعرِ الحقيقيّ، في مثل هذه الأيّام الشّاحبةِ، فيتحوّلُ بعضُ شُحوبِها صفاءً، والمُلَوَّثةِ المُلّوِّثة، فيتحوّلُ بعضُ تَلَوُّثِها نَقاءً، والضّاغطةِ، فيتحوّلُ بعضُ ضغطِها بَهاء!؟

     ألشِّعرُ يَخلُقُنا من جديد، مُعافَين بفرح. للحُبّ مُستسلِمينَ. بالإيمانِ مُسَرْبَلينَ. بالرّجاء مُتَّخَذين.

     أخي هنري، انتظرناه يقرأ شِعرَهُ، فقرأ حبَّه، وأحْبَبْناهُما معًا، هو وشِعرَه، وكنّا حوله، وإليه، باقةَ آذان وكوكبةَ قلوب.

___________________________________________________________________

·       على أثر جلسة خاصّة مع الشّاعر هنري زغيب دعا إليها "لقاء الاثنين" في مقرّه (سْهَيلِة/كسروان) مساء الخميس 9/9/2010.

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=7198