جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

في مسألة الموت


إيلي مارون خليل
14/08/2010

 

إلى تلميذتي: تانيا طوني فخري

      

       

 

قرأتُكِ، العدد الماضي من "المسيرة"، فوجعت: نفسًا، فكرًا، قلبًا. أعرفُكِ، يا تانيا. أظنّ أنّي أعرفُكِ. لماذا الظّنّ؟ مَن يضمن أنّه "يعرف"، أو "يفهم"، أو... ألمعرفةُ، مهما سمت، تبقى "شيئًا" من معرفة. ألفهم، مهما عمُق، يستمرّ "جزءًا" من فهم. ألمعرفة والفهم، ضبابيّان. قد يشفّان أحيانًا؛ وقد يتلبّدان. ألشّفوفيّةُ، وإن على شيء من نور، تظلّ "تُرينا" الأمر على غير ما هو عليه بالتّمام. تُقرِّبُه إلينا، تُدنيه من فكرنا، لكنّ القرب والدّنوَّ لا يعنيان "الكَشْفَ" الكلّيّ.

أقول هذا، يا تانيا، لأسوقَ إليكِ هذا التّأمُّلَ السّريع في ما اصطُلِح على تسميته بالموت. هذا التّأمّلُ لا يحمل "معرفتي" ولا "فهمي". إنّه محاولةٌ متتالية تُسهِمُ في تقديم "المعرفة" و"الفهم" إليّ أنا، قبل أيّ آخر. فالكتابةُ لا تقدّم "الجاهز" ولا "المُعَلَّب". هذان بعيدان، إلى أقصى ما يُتَصَوَّر من المعرفة والفهم بالمطلَق. ألكتابةُ تفكيرٌ علنيّ، بصوت هامس، إنّما واضح ومسموع. وبما هي هذا، فهي حوارٌ ذاتيّ أوّلا، وتاليًا طُموحٌ طَموحٌ إلى محاورة "الآخر": مختلفًا، مُشابِهًا، قريبًا، بعيدًا... ألحوار يبني المعرفة: جزءًا إلى جزء.

       إذًا، فما "الموت"؟ أبدأ بنفيه! بنفي "فكرته". بنفي "وجوده". "ألموت"، كما "يُتَوَهَّم"، لا وجود له. لا أحد "يموت". لا أحد "يغيب" إلى الأبد. ألغياب محدود بالزّمانيّة وبالمكانيّة. ب"الشّيئانيّة". محدودٌ هو برغبة "الحيّ"، وتاليًا "الأحياء". "ألحَيُّ"، بما هو قادرٌ على "التّفكير"، يُسمّي هذه الظّاهرة بالموت. ويُضيف: "إنّه انفصال النّفس عن الجسد"! أو: "إنّه ملاقاة وجه الله"! أو العودة إلى "الهيولانيّة"... إذا صحّ هذا، فلِمَ الحزن والألم والبكاء، وما يرافق من آلام "برّانيّة" و"نفسيّة"، "كمَن لا رجاء له؟ ومن ثمّ: ما الصّدفة؟ ما القضاء وما القدر؟

       أسارع، الآن، فأقول: إنّ "الموت" هو "انتقال". ألمُنتقِلُ ينتقل، لسببٍ ما، من مكان، من حال، من وضعيّة، من زمان... إلى مكان، إلى حال، إلى وضعيّة، إلى زمان... يبقى السّبب. ما هو؟ مَن يستطيع أن يعرف!؟ أهو الضّجر، الملل، اليأس، الكآبة، الحزن، الطّموح، حُبُّ المعرفة، المغامرة، المخاطَرة... أم هو لأمر آخر؟ ألمؤمن يعتبر أمرًا لا يوافقه عليه، أو فيه، غيرُ المؤمن. والمفكِّرون يناقضون بعضُهم البعض.

       إنّي "أرى" أنّ "الموت" تَخَلٍّ عن التّراب فينا. نريد أن نحيا بغير أثقال، بعيدين من الرّغبات والشّهوات و"الأرضيّات" كلِّها. ألمسألة ليست بهذه السّهولة. أنتبه وأعرف. ليس كلُّ مائت يُريد "التَّخَلّي". قد يكون يُحِبُّ "ترابيّتَه". قد يكون حالمًا بالمزيد منها. فلمَ، وكيف؟ يردّ البعضُ، هنا، بالقول: إنّه الصِّدفة. أو القضاء والقدر. لكن: ما هي الصِّدفة؟ أهي "توقيع" أحداث، تركيبُها، بشكل لامنطقيّ، مجهول الأسباب، غافل عن نتائجها، "تُصيب" كائنا "حيًّا"، ف"تقتله"، من دون أن تتقصّده بذاته؟ وتاليًا، يا تانيا، ولماذا "الآن"، و"هنا"، وهذا "الحَيّ"، تحديدًا، ومنذ الأزل؟ أأجرؤ على القول: وإلى الأبد؟ أليست الصِّدفةُ "توقيعات" الجهل وعدم النّضج وعدم التّحَلّي بالمسؤوليّة وعدم الوعي وعدم الإدراك و...؟ أليست الغباوةَ الكلّيّةَ، وقد تملّكها فردٌ، أو أفراد، ليُصيبوا بها آخر، آخرين، وعشوائيًّا، بالخفّة الفارغة كلِّها؟ ومن وجهة أخرى: أليست الصِّدفة، ظاهرًا، هي ما يمكن تسميتُه ب"العناية"؟ أيّة عناية؟ ألمؤمن "يرى" أنّها عناية الله. وحده يعرف لماذا، وكيف، ومتى. ووحده يعرف لماذا هذا، أو هذه، أو هؤلاء، هنا والآن. ونحن من المؤمنين المفكّرين...

       وما القضاءُ والقدَر؟ أهو "حُصولُ" صدَفٍ ما، صدفةً، و"حُلولُها" بإنسانٍ، أو عليه، بشكلٍ لا تبرير له؟ أهو "إرادة" أو "رغبةُ" أو "عدمُ انتباه"أو... "كائنٍ" ما لا مَرَدَّ لها؟ ما هذه "الإرادة" أو "الرّغبة" أو "عدم الانتباه"؟ أيُعقَلُ أن يحصُلَ هذا "النّقصانُ" المُعيبُ في ذاتيّة "الكائن"؟ هذا "القضاءُ والقدَرُ"، أهو "غفلةُ" هذا الكائن؟ أيجوز له، هو، أن "يغفل"؟ أين "الكمالُ"، كمالُه؟ "يتغافل"؟ هذا وقوعٌ في "العيب". حاشا!

       إنّ المؤمنَ لا يموت. لا يزول. يرحل. ينطلق. "يتحوّل". فلنفرح له لأنّه "تخلّص" من طينيّته وعاد إلى الرّوح الّتي منها أُخِذ. فهذا الانتقال هو عَوْدٌ إلى "الرّوح الكلّيّ"، ومنه هذا القَبَس الّذي هو الإنسان. فمنّا مَن "يستعجل" العودة، ومنّا مَن "تُستَعجَل" له. لماذا "يُسمَح" بهذا "الاستعجال"؟ لحكمةٍ، طالما أنّنا "ترابيّون"، نجهلُها. كيف نجهلُها، ولماذا؟ "ألتّرابيُّ" لا يستطيع أن يعرف "ملء" المعرفة، وحين يجتاز "الهُنا"، ويبلغ "الهُناك"، لا يعود في حاجة إلى التّبليغ.

       ألمؤمنُ، يا تانيا، لا يبكي "كمَن لا رجاء له". ألمؤمن "يرجو". ألمؤمن "يفرح". يعرف، هو، أن "المُنتَقِل" سبقه إلى "السّعادة" المطلَقة، الكلّيّة، على رجاء أن نلتقي. "ألمنتقِل" ينتظرنا بغبطة، ونحن ننتظر انتقالَنا، ونظلّ نشتاق إليه. لذلك إنّي أزعم أنّ "الموت"/الانتقال رحمة. هو خلاصُنا من جسدنا التّرابيّ، تسريعًا للالتحاق، للانتعاش، في "جسدنا" الرّوحانيّ، على رأي بولس. وفي هذا قوّةٌ لنا، وعزاء.

ألاثنين 12 تمّوز2010

 

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=7084