جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

ألحِوار


إيلي مارون خليل
08/02/2009
 

ألحِــوار

إيلي مارون خليل

 

 

        ألحِوارُ أداةُ التَّخاطُبِ المُثْلى. وسيلةُ التَّفاهُمِ الأرقى. ألطَّريقُ الأقصرُ لإقامتِكَ في قلبِ الآخَر، في ذِهن الآخَر، في عمقِ وِجدانِه.

 

        أن تُخاطِبَ، يعني انّكَ أمام آخَر تُكالِمُه. أنت تُنصِتُ إليه، وهو يُنصِتُ إليك، "تَتَناصَتان" باستمرار. هكذا يقترب واحدُكما من الآخَر، عقلا وقلبًا. هكذا يُقيمُ واحدُكما في الآخَر، ذهنًا ووِجدانًا. ألاقترابُ من الآخَرِ، حَذْفٌ للمسافات، إلغاءٌ للجدران: مادّيّةً ومَعْنَوِيّة. وهذا الإلغاءُ، حَضاريًّا يكون، فلا يُذيبُ الواحدَ في الآخَرِ، ولا يُلغي فكرَهُ. يُلغي البُعدَ، الخوفَ، الرَّهبةََ: ويَبْني الثِّقة. بِناءُ الثِّقةِ، يَبني مَتانَةَ الشَّخصيّةِ: أبيّةً، واعيةً، مسؤولةً، مُتَماسِكة. إذًا بَنّاءة.

 

        أن تتفاهَمَ، يَفترِضُ بكَ أن تكونَ مُُصْغِيًا إلى آخَر، مُهتمًّا لرأيِه، مُسْتَعِدًّا لقبوله، ففَهمِه، كما هو، قبلَ أن تتكوَّنَ، لديكَ، رغبةُ مناقشتِه. ألمُناقشةُ الإيجابيَّةُ مستحيلةٌ قبل الفهم. وهي تُثري وتُخْصِب. تُسْكِنُُكَ في الآخَرِ، وفيكَ تُسْكِنُه. ألسُّكْنى طُمَأنينةٌ هادِئةٌ، وسلامٌ داخِليٌّ مريح. تَتَكامَلان : فِكَرًا، تَصَوُّراتٍ، رؤًى. وهذا التَّكامُلُ، بِدَورِهِ، لا يُلغي أيًّا منكما. إنّه يَبني كُلاًّ منكما معًا. ألتَّكامُلُ إثْراءٌ للوجود. للوجودِ الخَلاّق. به تتمُّ المشيئةُ الكونيّةُ المُنْتَشيةُ بِوجودِها الآسِرِ البَنّاء.

 

        أن تُقيمَ في قلب الآخَرِ، يُنبِىء بأنّكَ نجحتَ. بِمَ ؟ بِحُبِّ الآخَرِ. أحَبَّكَ "الآخَرُ" ؟ فأنت امتلكتَ ثقتَه. فقد تأكَّدَ من اكتِسابِ ثقتِك. سكنتَ بالَه. فقد حَدَسَ بأنَّكَ أسْكنتَه فيك. إطمأنَّ إليك. فقد شَعَرَ باطمئنانِكَ العَذْبِ إليه. أحَبَّكَ "الآخَرُ" ؟ فقد أحَسَّ بِحُبِّكَ له. عشْتَ  حُبَِّه لك. نِعْمَةٌ مزدَوِجة. تُحِبُّ وتُحَبُّ. وثِقْتَ به، وبك أشاد ثقتَه. سكنْتَ إليه، وفيكَ أقام حُصْنًا له. تَطمئنُّ ويُطمَأنُّ إليك. تَشتعلُ وتُشعِلُ. تَنمو بالصَّفاءِ، وبه،"الآخَرُ"، ينمو. تَتَجَوهرانِ إنسانَي أصالةٍ وحقيقةٍ وخيرٍ وجَمال.

*******

        والحِوارُ، بعدُ، إجاباتٌ ومُراجَعاتٌ لِلكلام. فما المَعنى؟

 

        إنّهُ المَعنى كُلُّه.

 

        قبلَ أن تُجيبَ، أنتَ تَسمعُ، تُصْغي، بل أنتَ تُنْصِتُ، بِحَواسِّكَ، جميعًا. لِتُنْصِتَ، أنتَ تُقْفِلُ ذاتَكَ، بِكُلِّيَّتِها، عن كلِّ "خارج" و"خارجيّ". يَصِلُ إليكَ، "الآخَرُ"، صورةً، صَوتًا، ذهنًا، قلبًا، نفسيَّة. يَصِلُ إليكَ "مُصَفَّى"، شفيفًا، واضِحًا... تَقْتَبِلُهُ، أنتَ، بِحَميميَّةٍ مِلْؤها الصِّدقُ، بِحَرارةٍ تَخْتَزِنُ الانفتاح. وحينَ "تَحتضِنُ"، بِكُلِّيَّتِكَ الحميمةِ، الصّافيةِ، الصّادقةِ، الحُرَّةِ، المُنفتِحةِ، كلامَ "الآخَرِ"، تُعْمِلُ فيه عقلَكَ وقلبَك، مَنْطِقَكَ ووِجْدانَك. هكذا تَنْضَجُ، فيكَ، فِكَرُه، تَصَوُّراتُه، رغَباتُه، مُيولُهُ والرّؤى، فَ"تَصْفو" إجاباتُك ؛ بِدَورِهِ يَتَقَبَّلُها بِكُلِّيَّتِهِ الحميمةِ، الصّافيةِ، الصّادقةِ، الحُرَّةِ، المُنْفَتِحة. يُعمِلُ فيها عقلَه وقلبَه، مَنْطِقَه ووِجدانَه. وهكذا تَنضَجُ، فيه، فِكَرُكَ، تَصَوُّراتُكَ، رغَباتُكَ، مُيولُكَ والرّؤى، فَ"تَصْفو" إجاباتُه ؛ وبِدَورِكَ تَتَقَبَّلُها... إلى ما لا نهاية !

 

        - ما لا نهاية!؟

 

- ولِمَ الدَّهشةُ والعَجَب؟ إنَّ الحِوارَ الحقيقيَّ غيرُ مُتَناهٍ. تَتَكاملُ الأجوبةُ فيه، تَتَشابَكُ، تَتَفَرَّعُ، تَتَناسَلُ... ومن جديدٍ تُنْصِتُ بِكُلِّيَّتِكَ... تتبادَلانِ الأسئلةَ، تتبادَلانِ الأجوبةَ،  الأسئلةُ تَتَفَجَّرُ أجوِبةً، والأجوبةُ تتشَظّى أسئلةً، ومن جديد...

 

ماذا أفهم؟

 

-   أقولُ: إنَّ الحِوارَ اللامُتَناهي دليلُ نُضْجٍ فكريٍّ عميقٍ، وصفاءِ ذهنٍ أثيريٍّ، واستعدادٍ عاطفيٍّ طافِح. مِثْلُ هذا الحِوار، أمَلٌ ناضِجٌ، مسؤوليَّةٌ واعيةٌ، إنفِتاحٌ جَذّاب. ألأمَلُ حياةٌ جديدةٌ تتجدَّد. فكيف إذا كان ناضِجًا؟ ألنُّضْجُ انفتاحٌ على مدى المعرفة الوسيع. والمعرفةُ هي أن تُشاركَ "الآخَرَ" معرفتَك. ألمُشارَكةُ فرحٌ. والمسؤوليّةُ الواعيةُ، إدراكٌ جَوْهَريٌّ لِضرورةِ تَناقُلِ المَعارف. والحِوارُ الحَقُّ، طريقُكَ إلى ذلك. والحِوارُ، كذلك، انفِتاحٌ جَذّاب. هذا الانفِتاحُ الجَذّابُ/الجاذِبُ، يُحَلِّقُ بكَ في آفاقِ المعرفةِ الكبرى، والثَّقافةِ الشُّموليّة. ألحِوار؟ مُنْتَهى نَشوةِ "التَّثاقُفِ" المُبْدِعِ، خَلاّقِ الحضارات!

*******

وفي الحِوارِ، بِمَعناهُ هذا، لَذّةُ التَّخَلّي الصُّوفيِّ عمّا في ذاتِكَ من تَرَسُّباتٍ تُغرِقُكَ في وُحولِ الغَباوةِ والجَهلِ والغُرورِ والكِبْرِياء... لَسْتَ وحدكَ مَن يعرفُ. كلُّ إنسانٍ عارفٌ. حاوِرْهُ بانْفِتاحٍ، تَسْتَفِد. لا تعرِفُ، أنت، إلى أينَ قد يقودُكَ الحِوار. وما الهَمُّ ؟ لا تهتمَّ إلى أينَ يُمْكِنُ أن يؤدّيَ بكَ. دعْهُ! ألحِوارُ، في بعض أبْعادِهِ، سَفَرٌ واعٍ ولا واعٍ، لكن : لذيذٌ، غَيْبوبيٌّ، إلى المجهول الحبيب. في "المجهولِ" هذا، شَغَفٌ أُعجوبيُّ الذَّوَبانِ والتَّلاشي في مَضامينَ جديدةٍ يَكشِفُها لكَ. "ألمجهولُ" أفضلُ "كاشِفٍ" عن المعرفةِ الأبعد، الأعمقِ، الأكثرِ خُصوبةً.  قد يكونُ "المجهولُ"، أحيانًا، أبهى من انْكِشافِه! أللُغْزُ يُشَوِّقُ، يُغري، إليهِ يَجْذِبُكَ، وأنتَ غافِلٌ عالِمٌ معًا، "مُلْتَذٌّ"، كلِّيًّا، بِما أنتَ فيه، تَتَمَنّى ألاّ ينتهي. كأنّكَ في حُلمٍ شَيِّقٍ، فوق غَيْمةٍ تَشتعلُ أسرارًا.

 

ألحِوارُ الحِوارُ؟ إسْتِفْزازُ لَذَّةِ الاكتشاف ! تَقَبَّلْ. إنْفَتِحْ. أنْصِتْ. أحِبَّ. هي، هذه، طريقُ الحِوارِ الغنيِّ، الخصيبِ، المُخْصِبِ، والخَلاّقِ، أبَدًا، وكلَّ آن.

 

2 شباط 2009      

 

       

 

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=4672