جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

لــولا شــخــصــيّــةُ الــرئيس لَــفــتـَـحــوا فــروعــاً لــلــقَــصــر


سجعان قزي
08/05/2017

 

 

إبّـــانَ الشغورِ الرئاسيِّ كان البلـــدُ هادئاً من دون تسوية. اليومَ، البلدُ متوتِّـــرٌ رغم وجودِ تسوية... ورئيس. خَـرجنا من الشغورِ الدستوريِّ وبَـــقينا في الشغورِ الوطنيّ. هذا يَــعني أنَّ أطرافَ التسويةِ توافَــقوا على الحُـــكمِ من دون أن يتّــــفقوا على برنامجِ حُــــكمٍ، وأن التسويةَ حالـــةٌ مجازيّــــــةٌ أوْهَـــمونا بها لتغطيةِ انحناءةٍ سياسيةٍ ونَــــزوةٍ شخصية. ولَـــكَم خـــرَّبت النزواتُ عائلاتٍ وبيوتاً وأحزاباً وعهوداً وبلداناً، خصوصاً حين تكون صنعَ أشخاصٍ فَـــقدوا الصبرَ وافــــتَـــقدوا التجرِبة. فما هي هذه التسويةُ الرئاسيّـةُ والحكومـيّـةُ التي لم تَشمُل ـــ على الأقلّ ـــ قانونَ انتخابٍ جديد؟

في ما مضى، كانت الحكمةُ أقوى من الخِلافات، والمسؤوليـةُ تَـكــبَـحُ الــرُعونةَ، والاحترافُ يَـطغى على الهِــواية، والحَياءُ يَردَع نَــهَمَ السلطة. كانت الصراعاتُ تحت سقفِ الدولةِ، والمؤسساتُ في حِمى الدستور. كانت التحالفاتُ طبيعيةً وصادقةً إلى حدٍّ ما، فأصبحت مصطَــنعةً ومخادِعةً إلى أقصى حدّ. اليومَ، الوِدُّ على اللسانِ والخُــبثُ في العيونِ والكراهــيّـــةُ في القلوبِ والــغَــــثَـــيانُ في الــمَعِـــدَة والطعنُ في الظَهر والناسُ على الحضيض.

أخذونا إلى أمكنةٍ هَجَرناها حتى في أيامِ الحروبِ والشغورِ، وإلى أزمنةٍ ظـَــنّـــنا أنَّ دماءَ شهدائِنا طَــوتْـــها إلى الأبد، وإلى مواجهاتٍ تتعدّى طاقـــتَــنا ومناعـــتَـــنا وتُخالِف المصلحةَ الوطنـيّـة. بات لِـــزاماً مكافحةُ الفسادِ الوطنيِّ مثلَ مكافحةِ الفسادِ الإداريّ. لكنْ أين سنجِد في السوقِ المحلـيّـةِ نقولا تويني آخر؟

ما احترمَ أحدٌ فترةَ السَماحِ التي تُــمنحُ تاريخـيّـاً لكلِّ عهدٍ رئاسيٍّ جديد، عِــلماً أن نَســَـبَ العهودِ تَـــغــــيَّــر بعد دستورِ "الطائف". يومَ كانت الصلاحياتُ معقودةً لرئيس الجُمهوريّـة كانت كلمةُ "العهد" لصيقةً بالرئيس، وتالياً كان هو المسؤولُ عن نجاحِ عهدِه أو فشلِه. أما والصلاحــيّـــاتُ أصبحت في مجلسِ الوزراءِ، فالمسؤوليةُ انتقلت إليه وعليه. وبات الأصحُّ أن نقولَ عهدَ حكومةٍ في ظلِّ ولايةٍ رئاسيّـة.

إن سلطةَ رئيسِ الجُمهوريّـة محدودةٌ في اختيارِ رئيسِ الحكومة والوزراءِ، في توزيعِ الحقائبِ، في تحضيرِ جدولِ الأعمال، وفي حسمِ القرار. وحكوماتُ ما بعدَ "الطائف" هي حكوماتُ الكُتلِ النيابـيّـةِ وليست حكوماتِ رئيسِ الجُمهوريّـة، بل هي أحياناً ضِدَّه.

هكذا، يُــمكن أن تَفشَلَ ولايةُ رئيسٍ ناجحٍ وقويٍّ إذا فشِلَت حكوماتُ ولايتِـــه، ويُــمكن أن تَــنجحَ ولايةُ رئيسٍ فاشلٍ وضعيفٍ إذا نَجحَت حكوماتُ ولايتِـــه. في ما مضى، كان للرئيسِ أن يُـــفــشِّـــلَ الحكومات أو يُـــنـــجِّـــحَها، بعد "الطائف" يَحصُل العكس.

انــتُـــخِب الرئيسُ الجديدُ ولم يَنطلِــق عهدُه بعد. لا الّذين انتخَبوه يُساعدونه، ولا الّذين مرّوا بتجربتِه يؤازِرونَـه، ولا حتى الّذين شَـغِفَ بهم يُسـْـعِفونه. عِوضَ أن يَستعملَ صلاحـيّـاتِـــه إيجابياً، يُـضطَــرُ الرئيسُ، أيُّ رئيسٍ بعدَ "الطائف"، إلى أن يَستعملَ ما بقيَ له منها بشكلٍ تحذيريّ للتذكيرِ بمرجِعــيّــتِه العليا ولحَــــثِّ القوى السياسيةِ على إجراءِ إصلاحات؛ فيبدو كأنّـه رئيسُ كُتلةٍ معارِضةٍ للفريقِ الحاكم: يُــهدِّدُ بالفراغِ، يَرفضُ توقيعَ مرسومِ دعوةِ الهيئاتِ الناخبةِ على أساسِ قانونِ الستّـين، يُــهـــوِّلُ بالقانونِ الأرثوذكسيّ، يُـجمِّدُ مجلسَ النوّابِ شهراً استناداً إلى المادّةِ 59 من الدستور، ويُــــلَــــوِّح حتى بالشارع. ومع ذلك لا يَـــتَّـــفِــقون، فكلٌّ واحدٍ يُـغـنّي على مصلحتِه، بمن فيهم ذوو الـقُربى.

قبلَ دستورِ "الطائف"، كانت قـــوّةُ رئيسِ الجُمهوريّـة بتوقيعِه على القوانينِ والمراسيمِ والمشاريع، أما اليومُ فقــوّتُــه بعدمِ التوقيعِ عليها. إنها لحالةٌ هجينةٌ أن يَـــضعَ "الطائفُ" المرجِـــعَ المــؤْتمنَ على الدستور، أي رئيسَ الجُمهوريّـة، بمواجهةِ الدستور. وإنها لحالةٌ لافِـتةٌ كذلك أن يَحميَ رئيسُ الجُمهوريّـة نفسَه ودورَه وموقـعَه بشرعيّـةٍ شعبيّـةٍ بموازاةِ الشرعيّـةِ الدستورية. إنّ رؤساءَ الجُمهوريّـة اليوم مُخــــيَّرون ـــ مُــكــرَهين ـــ بين الــبَــصمِ على ما يأتيهم من مجلسَي النوابِ والوزراء وبين ردِّه سلباً. وأسطعُ دليلٍ إشكاليةُ عدمِ التوقيعِ على إجراءِ الانتخاباتِ بقانونِ الستّين أو على التمديد للنوّاب.

الأكثريّـةُ الرئاسيّـةُ تَــتحوَّل تدريجاً نحو أكثريّـةٍ معارِضَةٍ وتَــتصرّف حِيالَ العهدِ كأنّـها في "حربٍ باردة" معه. فبعدما رَفــعَت شعارَ "المرشّحِ القويّ" تكتيكـــيّــاً، عادت إلى واقعِ "الرئيسِ العاديّ". هكذا، نرى قِوى معيَّــــنةً تعيدُ ترسيمَ حدودِ القوّة وسقفِ السلطة، تتحدّى الدولةَ بالمظاهرِ والمواقف، تلعبُ دورَ المُرشِد وناظِمِ العَلاقات بين الأطرافِ السياسية، تَسمَحُ بإنجازاتٍ رديفةٍ كقانونِ النفطِ بدلَ قانونِ الانتخابات، تُسهِّلُ صدورَ تعييناتٍ هي استحقاقاتٌ لا إنجازاتٌ، وتَمنعُ الانجازاتِ الحقيقيةَ والاصلاحَ الفعلي. فرجاءً، خُذوا الصلاحـيّـاتِ واعطُونا إصلاحات!

مجموعُ هذه التصرّفاتِ المتعَـــمَّدةِ تهدُف إلى إبقاءِ الأوضاعِ الأمنيّــةِ والسياسيّــةِ والاقتصاديّـــةِ على حالِـــها، فلا يُميِّـــز اللبنانـيّـون بين الشغورِ وانتخابِ رئيسٍ، ولا يعتبرون أنّ منصِبَ رئاسةِ الجُمهوريّـة ضرورةٌ وطنـيّـة وحاجةٌ ملازِمةٌ لتقدّمِ البلدِ وبناءِ الدولةِ، ولحمايةِ الاستقرارِ والاستقلال، حتى لو كان الرئيسُ ميثاقـيّـاً وقويّــــــاً. هذه هي خريطةُ الطريقِ نحو تغييرِ بنيةِ الدولةِ اللبنانية بدون مؤتمرٍ وطنيّ.

والعجزُ عن وضعِ قانونٍ انتخابيٍّ جديدٍ (حتى الآن) هو عجزٌ مصطَنعٌ يَستهدِف النظامَ اللبنانيَّ بأسرِه. صحيحٌ أنَّ الـمُـهلةَ الدستوريّـةَ لوضعِ قانونِ انتخابٍ تَـتجدَّد، لكنَّ المُـهلةَ الأخلاقـيّـةَ لوضعِ قانونٍ للناسِ لا تتجدّد.

دخلت البلادُ أخيراً مِنطقةً دقيقة. غيومٌ داكنةٌ تَحجُب شمسَ العهد. اختَـــلطَ مفهومُ القويِّ مع مفهومِ الضعيف، وموقِعُ الحَــكَم مع موقعِ الفريق، والشعورُ بالبدايةِ مع الشعورِ بالنهاية، والإحساسُ بالإنقاذِ مع الإحساسِ بالغـــرَق. سُرِرنا ببروزِ تحالفاتٍ حديثةٍ تخطَّت الانقسامات، لكـــنّــنا لا نَلمس الفارقَ بعدُ بين الحليفِ والخصْم. صراعاتٌ مفتوحةٌ ومكتومةٌ تُـــذوِّب مركزيّــــةَ القرار. نعرِف من همُ الرؤساءُ، ونَعرف بالمقابِــل من يَحكُم البلد. ازدواجـيّـاتٌ لا ازدواجـيّـةٌ واحدةٌ وظِلالٌ لا ظِلٌّ واحد. ولولا شخصيّـةُ الرئيسِ لفتحَ بعضُهم فروعاً لقصرِ بعبدا.

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=13991