جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

الكتابة إلى المستقبل..


د. أحمد الخميسي
17/07/2016

 

 

مشكورا كتب اللواء أحمد عبد الفتاح تحت عنوان "الكاتبُ المخلص الكتابةُ قَدَرُه" مقالا جميلا مشبعا بهموم الأدباء والكتابة وذلك ردا على مقال سابق لي بعنوان "لن أكتب هذا المقال". وقد أعادني ما كتبه إلى أسماء أرباب السيف والقلم الوضيئة، ودفعني لمواصلة الحديث في الموضوع ذاته.

نعم الكتابة كما يقول اللواء أحمد عبد الفتاح هي قدر الكاتب، حتى لو كان مردودها ضعيفا، لأنها وثيقة الصّلة بالرغبة في إعلان الحقيقة. وتحضرني بهذا الصدد قصّةٌ قصيرة  للكاتب الإيطالي العظيم دينو بوتزاتي (1906-1972) اسمها "الخبر"، يتحدث فيها عن مايسترو شهير يقود بحرارة وإلهام السيمفونية الثامنة  لبرامز في دار الأوبرا. المايسترو وعازفو الأوركسترا والنغم والجمهور والضوء والمقاعد والأنفاس كل ذلك ينبض في قلب واحد. الاتصال الخفيّ السحريّ بشفرته غير المعروفة يسري في الجو بين المايسترو والجمهور. لكن فجأة، ينقل أحدهم للصالة خبرا مفادُه أن المعتدين يهاجمون روما. أي معتدين؟ لا ندري. ويبدأ الجمهور بهدوء، واحداً بعد الآخر، في مغادرة القاعة. وحين يرهف المايسترو السّمع يتناهى إليه من وراء كتفيه ومن حوله ومن أعلى صرير ضعيف، وهمهمات، وخطوات متلصصة، وتنقّلات لمقاعد، وأبواب تفتح وتغلق. وينظر المايسترو بجانب عينه فيلاحظ ازدياد الأماكن الخالية.

كان المايسترو مقبلا في تلك اللحظات على الحركة الأخيرة من السيمفونية، الحركة التي تعزف بحماس وفرح، وينبغي أن يصل بعد قليل إلى النقطة الحاسمة: إلى طرقة النجاح السعيد. لكن خيط الإلهام السحري ينقطع فجأة ويأخذ كل شيء في الانهيار داخل المايسترو وحوله. وأصبحت إشارات عصا القيادة الصغيرة ميكانيكية تماما. خيانة الجمهور كانت مفاجئة وصادمة وتركت المايسترو هامدا. قال المايسترو لنفسه: "هذا الجمهور جبان". قالها وهو يزن حجم الهلع الذي استولى عليه هو شخصيا وجعله يفكر: "إلى أين يذهب لو أن الحرب اندلعت فعلا؟ وما العمل في الفيلا التي بناها لتوه؟ هل يهرب إلى خارج البلاد؟". لقد تمزّق خيط الإلهام السحري في الذعر الذي سيطر على الجمهور والمايسترو. وفجأة ومضت في عقل المايسترو وهو واقف على منصة المسرح في قصة دينو بوتزاتي أن الخلاص الوحيد أمامه أن يستمر في عمله حتى النهاية وأن يثبت مكانه، وأن في ذلك الاستمرار وحده نجاته هو والآخرون أيضا. بذلك الإيمان انتفض المايسترو وألقى على أعضاء الأوركسترا نظرة حية ورفع عصاته الصغيرة وعادت الحياة تسرى في القاعة، وانبعثت الروح ثانية في اللحن الذي خمد. وسيطر الشوق إلى الحقيقة على القاعة، على العازفين، والجمهور، والنغم، والضوء، والمقاعد، الشوق إلى الحقيقة الذي هو أصل كل كتابة، والذي يجعل من الكتابة "قدر الكاتب". وعلى الكاتب حينما تنتابه نوبات الشك في جدوى عمله، أن يتذكر أن واجبه أن يواصل عزف النغمة إلى النهاية حتى عندما يصل الأعداء إلى بوابات المدينة، وحتى عندما يصاب الجمهور بالذعر، ويغادر القاعة متسللا واحدا بعد الآخر، وحتى عندما يجد الكاتب نفسه معلقا وحده في فراغ من الهواجس والشكوك، عليه أن يرفع قلمه النحيف عاليا في الهواء وأن يواصل عزف النغمة التي تجمع الحقيقة إلى الجمال. 

د. أحمد الخميسي. كاتب مصري

 

 

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=13461