جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

أنا وأنتِ.. لأحمد الخميسي.. الفن خلف الدموع


مصطفى عبادة
05/07/2016

 

 

وقعت عيني على اسم أحمد الخميسي، أول مرة في بداية التسعينيات، كان يكتب "رسالة موسكو" السياسية لمجلة اليسار، في خضم الانهيار الكبير الذي قاده "جورباتشوف" في خضن البيروسترويكا، و"الجلاسنوست"، ولم نكن نفهم ما جرى، حتى جاءت تلك الرسائل لتمسك بأيدينا وتقود خطانا، ومنها عرفنا ما جرى، وما يجرى، ودورنا في الانهيار. كانت مجلة اليسار آخر فعلٍ مقاوم، صحوة الموت، قبل الاستسلام النهائي لطوائف اليسار، وانقسامها بين العزلة والتمويل، كنت أنتظر رسالة موسكو بشغف ربة منزل تنتظر مسلسل السابعة لتفهم وضعها، وتخرج مشاعرها المكبوتة مع الأبطال، وتنظر إلى عالم آخر غير الذي تعرفه يشكل لها عزاء وتسرية. كنت أنتظر الرسالة مثل عجوز هجرها الأولاد انشغالا بدنياهم، وانقسامًا في مستقبلهم. منها عرفت خيانات جورباتشوف، ومخازى "يلتسين" السكِّير، دخلت حواري موسكو، وعشت مع المشتروات، واللصوص ونهابي الأوطان، حين أطلقت الرأسمالية الوليدة، أحطَّ غرائز الكائن البشري، فنشط التجار والمهربون ومليونيرات اللحم البشري الطازج.

عرفت من كتابات أحمد الخميسي – وقتها – كيف كان سباق التسلح فخًا رأسماليًا أمريكيًا شربتْه روسيا العظمى "الاتحاد السوفييتي"، كما حرب النجوم والكواكب، فاندفعت روسيا حتى فاقت الجميع، وفي حين لم تفق أمريكا إلى القمر إطلاقًا، فعلتها روسيا لأنها صدّقت خرافة التفوق التكنولوجي.

 عرفتُ على يد أحمد الخميسي كيف أن التكنولوجيا هزمت الأيديولوجيا، كان الأمر مريبًا، وفى الأطراف في عالمنا العربي كان الواقع يبدو كابوسيًّا. فكتب الراحل العظيم فوزي منصور "خروج العرب من التاريخ"، وكان بيع القطاع العام يجري على قدم وساق، استكمالا للنصر الرأسمالي المؤزّر، وكتب "فوكوياما".. "نهاية التاريخ"، وكانت قنابل الجماعات الإسلامية المسلحة تحصد الأرواح في الشوارع، يموت أبرياء وأطفال، وكانت جمهورية إمبابة لصاحبها "حسن" الطبال أمير المؤمنين الجديد، كنا نتفتت تزامنًا لعيون نصر الرأسمالية، وهذا جزء من انتصارها الذى لن يكتمل قبل حث صدام على غزو الكويت، ثم تحرير الكويت، و؟؟؟ الأخيرة مع العالم العربية، بعد أن أخرجت أمريكا الاتحاد السوفييتي من المعادلة، بعد ذلك صدرت رسالة موسكو في كتاب بديع، عن سلسلة كتاب الأهالى بعنوان: "موسكو تعرف الدموع"؛ فكان شهادة شاهد عيان على خراب العالم، وانزياح القيم القائمة على التراحم واحترام الضعيف والرفق به.

ثم عاد أحمد الخميسي إلى مصر، ليخلص لفن من أصعب الفنون وهو "القصة القصيرة"؛ فكان يكتب بخبرته، لا يكتب خبرته، تفيض منه القصة كما يفيض الماء من البئر عذبًا سلسًا، سائغًا طعامه للشاربين، تخرج قصصه من خبرة عميقة وثقافة فياضة منذ بداياته في الستينيات حينما كتب عنه يوسف إدريس "برافو يا أحمد كتبت".

وبرغم قلّة إنتاجه في القصة القصيرة، فإن فيه حيوات جمة، وبشرًا من لحم ودم، ومشاعر وانفعالات، فيه محبة للحياة واحترام للروح الإنساني، في قصصه روح عصره ومتغيراته، فما الفن كما قال جارودي: "إلا أسلوب الَّلا أسلوب حياة، وأسلوب حياة الإنسان عبارة عن عمليتي انعكاس وخلق لا ينفصمان بعضهما عن بعض؛ لأن الإنسان ليس منعزلا، وعندما تواتيه فرصة التفتُّح والانطلاق فإنه يتحول إلى عالم صغير يحمل في طياته ثقافة الجنس البشري السابقة عليه، أما حاضره فيتمثل في "تواجد" عصره في حياته".

 

وهكذا جمع إبداع أحمد الخميسي في القصة، وآخرها مجموعته الجديدة "أنا وأنتِ" الصادرة عن دار "كيان" للنشر والتوزيع نهاية عام 2015، بين خبرة الروح، ومحاولة الإمساك بتلابيب اللحظات الهاربة والمشاعر الدفينة، غير المعبر عنها علنًا، وغير المدركة أحيانًا، وبين انهيارات الواقع وانعكاسها وتماسها مع الروح المبدعة، فخلت القصص من الزخرفات اللغوية، والطرطشة العاطفية، ومحاولة ادّعاء العمق بالاعتماد على المفارقة، والإغراق في الشاعرية التى تفقد القصة وجودها كفن مستقل، على أن شاعرية اللغة لدى أحمد الخميسي في محاولة إمساكها "بالزمن النفسي"، تراكم إحساسًا بهذا الزمن المفارق للزمن الواقعي والمتقاطع معه: "أقلب السكر في فنجانك بالملعقة التى اشتريناها أنا وأنتِ منذ سنوات، وكانت مذهّبة وانطفأ وهجها"؛ التعبير منذ سنوات هو الواقعي، وانطفأ وهجها هو الزمن النفسي، الذى يراكم إحساسًا بالفقد، ويهيئ مع غيره للحظة النهاية، التى ستعرف فيها أن الراوي يخاطب ذاتًا ميتة، "نتناول العشاء أنا وأنتِ بقلق ومحبة وعزلة مؤلمة"، أو "أتملَّى وجهك بحب وعمق ويأس في حجرة النوم".

قصة "أنا وأنتِ" وفي كثير من المواضع، يشكّل الزمن النفسي ومحاولة استحضار بدايات الفقد، والتوقع، ومسيرة الهواجس الدفينة، يشكّل كل ذلك أحد مرتكزات هذه المجموعة وهو مثبوت في القصص، كالعقد المنظوم الذى يلم شتات النفس، ويربط المجموعة كأنه "الدسار" الذى يربط أجزاء السفينة، "سأفتح الباب وأراكِ يومًا، حتى لو لم تكوني أنتِ سأراكِ، حتى إذا لم تظهري أبدًا سأراكِ، سأراكِ مضطربة في فتحة الباب تتطلّعين إليَّ وأنتِ تتفادين الماضي" من قصة "سأفتح الباب وأراكِ يومًا"، ثم قصة "وجه" كاملة، وكذلك قصة "آليونا" التى لم تكن شخصية آليونا فيها غير تكأة فنية، لرصد دبيب الزمن، وتبدُّل المشاعر، آليونا هنا هي المعادل الموضوعي للذات التى تنسحب فيها الحياة، قصة الحب الشفيف بين الرجل الناضج، والفتاة ذات الخمسة عشر ربيعًا، ولقاء المصادفة عبر عشر سنوات، كأن الروح المبدعة تحاول القبض على الزمن، أو تجميد اللحظة الهاربة، لا يستطيع أن يصدق أن آليونا الصغيرة قد اختفت، ولم يبق سوى صورة يراها ولا يصل إليها أبدًا؛ آليونا هي الزمن في لحظتين متباعدتين بينهما عشر سنوات، وإن بدتا واقعيًا كذلك، فإنهما تعبّران عن الروح في عمق إحساسها بالزمن، والزمن حاضر في التردد، وفي دبيب المشاعر الفياضة، في المفارقة بين النور والظلام، في تعقل الرجل الكبير أمام فتاة فوَّارة في اللحظة الأولى، وفي خفوت التردد والدعوة المباشرة إلى غرفة الفندق بعد عشر سنوات، ولكن شيئًا لم يحدث، وما كان لشيء أن يحدث. تطل قصة "آليونا" من وجهة نظرى من أعذب اللحظات الإنسانية التى تمر بالبشرية، وتمر بالكثيرين، ويقنّنون التعبير عنها، الأصح لا يستطيعون الإمساك بها، وأمسكت بها روح المبدع المتأمل في ذات أحمد الخميسي.

لم أستطع التعامل مع هذه المجموعة إلا من خلال نقطتها المركزية "الزمن النفسي"، وما إن تغادر قصة "آليونا" حتى تجده أمامك – الزمن – في قصة "خطوبة": في السابعة مساء الغد سيطرق الباب، يُفتح، يصافحون واحدًا بعد الآخر باليد أو بإيماءة رأس، يتقدمون ببطء إلى الصالة، يسترقون النظر بأدب إلى ما حولهم، إن الإحساس في نفس خاطب، يتصور ان سعادته ستأتي غدًا في السابعة مساءً، وسيتحول الوقت حتى هذه الساعة إلى أزمان وهواجس، ثم تتحول القصة بعد ذلك للحديث عن والد العروس "أمل"، في صراعه الذاتي هو الآخر مع الزمن، الذي يريد أن يثبته عند لحظة معينة، وهو ينظر إلى صورة زوجته في لحظة خطوبة ابنته؛ يمتد الصراع مع الزمن من ذات العريس المقبل على بدء حياته، إلى ذات الأب الذي بدا أنه يودع آخر جزء من حياته، وينعكس الصراع – حتى – على المكان في نفس الأب: "مر بعينيه على الصالة، هى أساس كل شيء، هنا ستدور المعركة، لابد أولا من استبعاد الأشياء المتناثرة الملقاة حيثما كان، ثم نفض التراب والكنس والمسح والتلميع، صاح ابنته: أمل.. يا أمل، جاءت من الداخل.. جرَّا إلى حجرة نومه كرتونة كتب كانت بين أرجل منضدة الطعام، قالت أمل تهوِّن عليه: مؤقتًا يا بابا، أيَّد كلامها: مؤقتًا. رفعت كرسيًا لأعلى.. هزته: مشروخ لو قعد عليه ضيف هيقع على الأرض". ولو أحصيت في هذه القصة ألفاظ الزمن وما يدل عليه لهالك الأمر.

 ثم نشير إلى قصة "بيت جدي" بكل ما فيها من معالجة لمواجع الزمن، وضغط الذكريات، وفداحة الفقد، وتبدُّل الحال، كأنها تاريخ لأجيال تتحد في الوجدان، وتختلف في المصائر: وظل البيت زمنًا طويلا يتهدم ببطء مثل سفينة تعرق في الزمن من دون أن يوليها أحد اهتمامًا.

هل يدل هذا الكلام على شيء؟ نعم، مع أن القصة لدى أحمد الخميسي لا تعني الاشتباك مع الواقع، والغرق في تفاصيله اللانهائية، والتي لا تضع بتراكمها فنًا، وإن صنعت خبرة؛ وإنما تعني تأمل هذا الواقع في صيرورته وجريانه الذى لا ينقطع، جارفًا في طريقه رغبات وحيوات ومشاعر وأعمار، والفن لا يعلِّق على الأحداث، والفنان الأصيل لا يقف إلا أمام دلالاتها، وما تتركه في الروح من أثر، وما تخلفه في الوجدان من شفافية، وما تتركه في القلب من خشونة أو رقيّ.   

مصطفى عبادة ناقد وكاتب صحفي مصري حائز على جائزة دبي في الصحافة الثقافية عام 2016

 

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=13429