جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

ما العمل؟


مازن كم الماز
19/05/2016

 

 

سؤال قديم جديد، دائم، ما دامت الحياة.. الصعوبة ليست بالضرورة في البحث عن العمل، بل في السؤال نفسه أحيانا.. لنتصور أيام دانييل خارمز الأخيرة.. كان دانييل خارمز "شاعرا"، "كاتبا"، "سوفييتا" أو "روسيا".. "روسيا" لأنه ولد كذلك.. "سوفييتيا" كان ذلك بسبب جواز سفره، أو لأن ذلك كان اسم البلد التي كان يعيش فيها.. "شاعر" الخ: هكذا سموه، هكذا يسمي البشر بعضهم بعضا، أما هو فسمى نفسه دانييل خارمز، وأحيانا تشارمز، أو شارمز، كان من القلة النادرة التي اختارت اسمها، واختار لنفسه اسما يكتب ويلفظ بطرق مختلفة، شارك في حركة "فنية طليعية" في العشرينات، ثم مُنع من الكتابة، سُجن ونُفي لأن ما كان يكتبه لم يعجب قادة بلاده وحراسهم.. قضى سنواته الأخيرة بين كتابة قصص الأطفال وبين البطالة جوعا، سيتضح فيما بعد أن ذلك كان فقط تمرينا للمشهد الأخير، الكبير، والتافه أيضا بشكل من الأشكال.. عندما هاجم هتلر "وطنه الأم" كان مسجونا في سجن لينيغراد بتهمة إضعاف عزيمة "الأمة".. ادّعى الجنون، أو جُنَّ فعلا، لا فرق، فنُقل إلى قسم الأمراض العقلية في المستشفى الملحقة بالسجن.. مات خارمز في شباط 1942، مات جوعا، في سجن سوفيتي يحاصره النازيون.. لنعد إلى سؤالنا: ماذا كان على خارمز أن يفعل؟

شخص كخارمز كان يعرف جيدا من هم "سادة وطنه الأم"، ما يمكنهم فعله، به وبأمثاله، ما فعلوه وما سيفعلوه، ولا شك أيضا أنه كان يعرف جيدا ما ينوي هتلر فعله به وبالملايين من "أبناء وطنه": ذبح معظمهم وتحويل الباقين إلى عبيد - عمال سخرة - فئران تجارب، كان السؤال صعباً جداً على خارمز.. ما العمل؟ أي طرف كان عليه أن يختار؟ أي موت، أي قاتل سيختار؟.. طالما تردد هذا السؤال المزعج، في كل مكان، وكل زمان، تقريبا.. كتب نجيب سرور "..." أمياته وهو جائع، نصف عار، نصف مجنون ربما، لكنه جنون عاقل جدا، كتبها وألمُ الهزيمة يأكل روحه، وهو يرى أسباب النكسة أقوى مما كانت عليه في حزيران، وأسوار السجن ترتفع أعلى فأعلى، والكذبة تصبح أكبر فأكبر.. ماذا كان على سرور أن يفعل؟ وأمل دنقل، "الشاعر" الصعيدي الأسمر، ماذا كان عليه أن يكتب وهو يرى إله الجنود يقتل من كان بالأمس يصفّق له، من يفترض به أن يحميهم، يرى اللحم العاري وهو يتحول أوسمة جديدة وألقابا جديدة تضاف إلى اسم الوالي.. ماذا كان يإمكان هؤلاء أن يفعلوا؟ فعلا، ما العمل؟ أن تجن كما فعل نجيب سرور، أو تموت جوعا كما فعل خارمز أو تنتحر بالسرطان كما فعل أمل دنقل.. هل من "المعقول" أن تلك فقط هي الخيارات التي كانت أمامهم؟ وإذا اتّضح أن ذلك حقيقي بالفعل، إذا كنت "مجنونا" كخارمز أو نجيب سرور، إذا كانت لك عينُ زرقاء اليمامة ومجون أبي نواس وروح سبارتاكوس كأمل دنقل، ماذا يمكنك أن تفعل؟ ماذا نفعل؟ ما العمل؟  




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=13291