جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

اتصال - قصة قصيرة


د. أحمد الخميسي
09/05/2016

 

 

كنت جالسا على مقعد عريض مائلا بصدري للأمام. بيدي اليمنى سماعة الهاتف ملصقة بإذني. على أريكة عن يساري رقدت عمتي بجلباب منزلي واسع وقد فردت ساقيها أمامها. في مواجهتها جلس ابن اختي على كرسي يحدق بي من دون سبب واضح. راحت عمتي تصف له امرأة ما من أقاربنا بأنها غبية وحمارة إذ لم تستطع تربية أبناءها ولا الحفاظ على البغل زوجها، وأخذت تدلل على ذلك بحماقات تلك المرأة. كانت الكلمات ترنُّ قرب أذني من دون أن أعي معناها، فقد استولى عليّ التوتُّر وأنا أُرهف السّمع للطرف الآخر على الهاتف. المكالمة من إذاعة أو جريدة في انتظار تعليق مني على الأوضاع. ولم تكن تلك الأوضاع التي ينبغي أن أتحدث عنها حاضرة في ذهني، ولا كنت أدرى بالدقّة من هو الطرف الآخر، ولا حتى إن كان إذاعة أم جريدة. كان تركيزي كله منصبّا في الإنصات إلى الصّمت ووشيش السماعة ومحاولة التقاط كلمات الصوت المهشّم وتفسير ما يقوله. في ذلك الوقت أخذت ثرثرةُ عمتي تستثير أعصابي، وتشحذ توتري، فأشعر أني على حافة الإقدام على فعل متهوِّر لوقف كل ذلك. هززت السماعة بيدي لكي تفهم أنني مشغول بمكالمة مهمة. رجوتُها: "هناك موضوع مهم. وأنا لا أكاد أسمع ما يقوله الطرف الآخر. من فضلك الزمي الصمت شوية. شوية بسّ". نظرتْ إلي بجانب عينها كأنما تستوثق أن شيئا ما بدر مني، صوتا أو تعليقا أو ملاحظة، ثم واصلت حديثها وهي تؤكد ما تحكيه بدوائر وإشارات من أصابع يديها. ضغطت السماعة على أذني بقوة أشد. جاءني من بعيد صوت رجل يلقي التحية. ربما كان قد قدّم لي نفسه لكني لم أسمعه. رحّبت به. سألني إن كنتُ من قرية بشلا بالدقهلية؟ وضحك ضحكة متقطعة. لم أفهم أهمية ما يسأل عنه أو موضعه من المكالمة. وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها باسم القرية، لكني من باب مسايرة الحديث قلت: "بالطبع. بشلا معروفة. لكني من بلدة مجاورة". تقطّعتْ ضحكته ثانية في وشيش الصوت وقال: "نحن أقرباء إذن". قلت وأنا أحاول أن أتذكر اسمه إن كان قد قدم لي نفسه: "طبعا أقرباء". هتف بصوت خشن أقرب إلى الفظاظة:" المهم أن تكون مستعدا". أدركت أنه يقصد التعليق الذي ينبغي أن أدلي به للإذاعة أو ربما للجريدة أو كالة أنباء. قلت: "نعم. مستعد. بالتأكيد". رنّت في الجو قهقهة عالية من عمتي. خطفت نظرة سريعة إليها فوجدتها تبتسم بسعادة وهي تضع يدّها على فمها، وابن أختى يبتسم لها ووجهه يشعُّ بالسرور. الآن سيفتحون الميكروفون من الطرف الآخر لتسجيل كلمتي، وهي مستغرقة في ثرثرتها. نهرتها: "هذا عمل. من فضلك اسكتي شوية. لا أسمع ما يقولونه، ولا أدري حتى المطلوب مني". رمتني بنظرة جامدة لا مبالية تنطوي على ازدراء خفيف، فلم أدر بنفسي إلا وأنا أنهض واقفا وأجذبها من قفاها فيرتفع جسمها في الهواء. أردت أن ألقي بها خارج الحجرة مثلما ترمى قطة، لكني تذكرت على نحو مبهم أنها عمتي وأنها سيدة مسنة فأرخيت قبضتي وتركتها، واتجهت إلى حيث يجلس ابن أختى. جذبته من قميصه ودفعته بعنف خارج الحجرة وهو صامت لا يقول شيئا. عدت إلى الحجرة فوجدت عمتي وقد لزمت الصمت أخيرا. أمسكت السماعة لأواصل ما انقطع فسمعت صوتا نسائيا ينادي: "آلو.. آلو؟". هتفت: "أيوه. آلوه. أنا معكم. أيوه". لكن الصوت تلاشى كأنما ابتلعته من بعيد قوة خفية. صحت بقوة:" آلو؟!". لم أسمع إلا وشيشا عميقا كصوت رمال الصحراء. جلست متكدّرا بعكارة ومرارة. ثرثرة عابرة حالت بيني وبين أن أعلم من الذي خاطبني وما الذي كان مطلوبا مني.

 

د. أحمد الخميسي . كاتب مصري




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=13263