جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

السينما زمن الطربوش


د. أحمد الخميسي
02/10/2015

 

 

في كتابه الجميل "هذه حياتي" يقول عبد الحميد جودة السحار: "رطل اللحم الضأن لم يكن ليزيد ثمنه عن ثلاثة قروش.. أما مكونات السلاطة الخضراء فقد كنا نحصل عليها بلا مقابل، فهي هدية من الخضري مادمنا من زبائنه، وإيجار الشقة في الأحياء الوطنية ما كان ليزيد عن جنيه أو جنيه ونصف". ثم يقول عن أخيه سعيد "سعيد قد نال ليسانس الآداب، ولم يجد وظيفة بعد، مع إنه لو توظّف لقبض في الشهر ستة جنيهات وهي كافية لفتح بيت"! أما عن الكتب التي كان السحار يشتريها ليقرأها فيقول إنه مع أخويه كانوا يتجهون إلى المكتبات المتواضعة على جانبي الطرق المؤدية للأزهر، فإذا جمعوا كتب القصص وضعوها في الميزان ودفعوا ثمنها بحساب الأقة (الكيلو)! في ثلاثينات القرن الماضي التي يصف السحار أحوالها كان قد انقضى على ظهور السينما نحو عشر سنوات أو أكثر بعد ظهور فيلم "الشرف البدوي" و"الأزهار القاتلة" انتاج شركة ايطالية مصرية عام 1917 و"الخالة الأمريكانية عام 1922.

تُرى كيف استقبل المصريون في مجتمع لم يكن يؤمن حتى بدور الطب أو العلم مفاجأة الفن السينمائي حينذاك؟ تشتمل سيرة حياة السحار على إشارات مهمة في ذلك المجال، خاصة أنه تابع مولد السينما في مصر تقريبا منذ البدايات. يحكي السحار عن مرحلة الأفلام الصامتة التي كان نجومها "وليم هارت" أشهر مَن طارد الخارجين على القانون في الغرب! ثم أفلام شابلن، ورودولف فالنتينو ساحر النساء، وغيرها. وكانت الأفلام المصرية التي ظهرت تُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة فعلا لا مجازا. ويشير السحار إلى دور العرض الكبرى حينذاك: "إيديال"، و"رويال" و"الكلوب المصري"، و"جوزي بالاس" بشارع عماد الدين، وغيرها، أما سينما "حديقة الأزبكية" فكانت الكراسي فيها تحيط بالمناضد، وثمن التذكرة أربعة قروش تعطي الحق للزبون في طلبٍ من البوفيه قيمتُه قرشان!

يقول السحار: "كبرنا، وبعد أن كنا نقيس نجاح الفيلم بعدد اللكمات ومقالب الحرامية أصبحنا نقيس نجاحه بالمواقف العاطفية وطول القبلة"! ويقول السحار لقد راج الحديث عن إنتاج أول فيلم مصري "ليلى" لعزيزة أمير، ويقول: "كنا في شوق أن نرى على الشاشة أبطالا مصريين مثل مارلين ديتريتش وجريتا جاربو.. وأُعلن عن قرب عرض فيلم "ليلى" في سينما متروبول خلف محلا شيكوريل.. وتجمع الناس أمام دار العرض ودخلنا فرحين مستبشرين.. وبدأ العرض وقلوبنا ترقص من الفرحة، وكل لقطة تهزّنا، وأخذنا جميعا نصيح مأخوذين كلما ظهر شيء فيه الطابع المصري: الله.. قلة! طبلية! ملوخية! طربوش"!

هكذا بدأ المصري يرى حياته التي يعرفها حتى لو قدمت له بوعي زائف، إلا أن صورها من حياته وليست من حياة الغرب. ثم تناقلت الصحف أن فيلما مصريا ناطقا سيظهر قريبا، وفيلم "أولاد الذوات" عام 1932 فيقول السحار: "كنا ننتظر في لهفة فيلم أولاد الذوات فهو أول فيلم ناطق يصور الجزء الناطق منه في فرنسا وتشترك في تمثيله ممثلة فرنسية.. وعرض الفيلم وإذا بحوار الفيلم يصبح على كل لسان لكأنما كان أغنية هزّت ضمائر الناس، وأصبح من المألوف أن تسمع الناس يقولون في الطرقات: "شرف البنت ياباشا زي عود الكبريت ما يولعش إلا مرة واحدة".

فرحة المصريين بمشاهدة حياتهم على الشاشة كانت أيضا مرة واحدة، في البداية، ثم اعتادوا ذلك.

أحمد الخميسي. كاتب مصري

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=12687