جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

الزّيارةُ الأَخيرَةُ لِسَميحِ القاسم


حسين مهنّا
08/09/2014

 

 

 تواعَدْنا أنْ نَلْتَقي عِنْدَ سميحِ القاسم.. بروفسور جمال زيدان – المُشْرِفُ على عِلاجِهِ – بِرِفْقَةِ زَوجَتِهِ.. الكاتبُ زَكي دَرْويش بِرِفْقَةِ زَوجَتِهِ.. وأنا بِرِفقَةِ زوجَتي.. ارتَقَينا دَرَجاتِ بَيتِهِ الكَثيرَةَ صامِتين.. وفَكَّرْتُ.. كَيفَ سَيَسْتَقْبِلُنا سَميح!؟ استَبْعَدْتُ فِكْرَةَ أنْ نَجِدَهُ على سَريرٍ كانَ سَريرَ سَكينَتِهِ وقَرينَ راحَتِهِ فَصارَ بِمَرَضِهِ، سَريرَ آلامٍ وآمال.. آلامِ مَرَضٍ يَسْتَمْرئُ نَهْشَ اللَّحْمِ الآدَمِيِّ.. وآمالِ إنسانٍ أحَبَّ الحياةَ فَعاشَها بِطولِها وَعَرْضِها قَوِيَّاً لا يَكِلُّ وفاعِلاً لا يَهْدَأ.

 

.. وقَدَّرْتُ أنْ نَراهُ واقِفَاً تَسْنُدُهُ عُكّازَةٌ تُفاخِرُأَخَواتِها العُكَّازاتِ أَنَّها رَفيقَةُ سميحِ القاسم.. لَمْ نَطْرُقِ البابَ، فَقَدْ كانَ مَفْتوحَاً.. وكانَ سَميحٌ، كَعادَتِهِ في اسْتِقْبالِ زائِريهِ، واقِفَاً عِنْدَ المَدْخَلِ لاسْتِقْبالِنا بِوِجْهِهِ السَّميحِ وبِابْتِسامةٍ تَحْمِلُ أَكْثَرَ مِمّا تَحْمِلُهُ كَلِماتُ التَّرْحيبِ والتَّأْهيل مِن مَحَبَّةٍ وَمِنْ صادِقِ فَرَح.. ثَمَّةَ شَيْءٌ ما قَدْ تَغَيَّرَ، فَسَلامُ سَميحٍ العادِيِّ يكونُ بِالعِناقِ، وأَمّا في هذا اللِّقاءِ، فَكانَ بِالمُصافَحَةِ، ليسَ لِأَنَّ الرَّسولَ الكَريمَ أَوصَى بِأَنْ يكونَ السَّلامُ لا بِالالتِزامِ بلْ بِالمُصافَحَةِ، ولكنْ عَمَلاً بِتَعْليماتِ البروفِسور جمال، وذلِكَ حِرْصَاً على صَحَّتِهِ، وخَوفَاً على مَناعَتِهِ مِنْ أَنْ يُعَكِّرَها فَيضُ حُبِّنا.

 جَلَسْنا وقد انضمَّ الينا الأديبُ الدّكتور نبيه القاسم وزَوجَتُه فَزادَتِ السَّهرَةُ دِفْئَاً، والحَديثُ طُلاوَةً. أخَذَتْنا أحداثُ السَّاعَةِ فَجَرَّعَتْنا مَرارَةً غَمَرَتْ كُلَّ حُلْوٍ في نُفوسِنا.. وأرْجَحَتْنا أُرْجوحَةُ الأَدَبِ يَميناً ثُمَّ شِمالاً وحَطَّتْنا على بَيدَرٍ زُؤَانُهُ كَثيرٌ وقَمْحُهُ قَليل.. ولم يَبْقَ لَنا من شَفيعٍ يُخْرِجُنا من حديثِ السّاعَةِ، وحديثِ الأَدَبِ والأُدَباءِ سِوى حَديثٍ عن ذِكْرى جَميلَةٍ، أو طُرْفَةٍ هُنا أو نُكْتَةٍ بَريئَةٍ هُناك.

 نَظَرَ سميح الى بروفِسور جمال نَظْرَةَ تِلْميذٍ يطلُبُ إذنَاً من أستاذِهِ.. ثُمَّ أَخرَجَ سيجارَةً، وهي المَمْنوعَةُ عَنْهُ مَنْعَاً لا تَساهُلَ فيهِ.. ولكنَّ سميحَاً إذا صادَقَ أخلَصَ، فَهَلْ مِنَ السَّهلِ عليهِ أنْ يَتَنازَلَ عن هذهِ الصَّديقّةِ الوَفيَّةِ وَفاءَ الوَرَقَةِ والقَلَمِ له! تَبَسَّمَ البروفِسور كَأَنَّهُ يقولُ لا بأْسَ، فهَشَّ سَميحٌ لِصَديقَتِهِ كَما يَهَشُّ طِفلٌ لِبِذْلَةِ العيد..

 كُنْتُ أَنظُرُ الى سميح فلا أَرى أَيَّ دَلالَةٍ تُشيرُ الى مَرَضٍ خَبيثٍ احتَلَّ كَبِدَهُ وَبَدَأَ يَنْتَشِرُ في جَسَدِهِ الرَّقيقِ النَّاحلِ كَانْتِشارِ العُثَّةِ في ثوبِ حَرير، فابْتِسامَتُهُ هيَ هيَ، وَوَسامَتُهُ هيَ هيَ وَصَوتُهُ الإذاعيُّ هُوَ هُوَ، فَارْتَحْتُ.. ارتَحْتُ لِهاجِسٍ

يقولُ : انتَصَرَ سَميح!! انتَصَرَ، كَعادَتِهِ، في مَعارِ كِهِ صَّغيرَةً كانتْ أَو كَبيرة.

 شَرِبْنا القَهوةَ مَعاً ونَحْنُ مُتَأَكِّدون أنَّهُ لَنْ يكونَ فِنْجانَ القَهْوةِ الأَخير.. وقُلْنا وَداعَاً ونَحْنُ على قَناعَةٍ أَّنَّهُ لَنْ يكونَ الوَداعَ الأخير.. قَبْلَها قامَ سَميحٌ وأَعطى كُلَّ واحِدٍ مِنَّا سُبْحَةً، سَلَّمَها لِزَوجاتِنا لُطْفَاً واحتِرامَاً.. فَالسُّبْحَةُ عندَ سميح رَمزُ الصَّفاءِ وعُنْوانُ الأُخُوَّةِ العَرَبِيَّةِ الصَّادِقة.

 كَبيرٌ أنْتَ يا سَميح!

 كَبيرٌ أنْتَ يا أَخي!

 لا تُصَدِّقْ نَعْيَ النُّعاةِ الَّذينَ نَعَوكَ.. إنّي أراكَ على سَفْحِ حيدَر، جَبَلِكَ الأَشَمِّ الحَبيبِ تَتَناوَبانِ الحِراسةَ على قَرْيَةٍ اسْمُها رامَة.. تَتَناوَبانِ الحِراسَةَ على وَطَنٍ اسْمُهُ فِلَسْطين.

( البُقَيعة/الجليل 1/9/2014 )

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=11354