جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

قراءة في كتاب ميشلين حبيب لأنّنا على قيد الحياة


سليمان يوسف إبراهيم
05/03/2014

 

 

 

لأنّنا على قيد الحياة لميشلين حبيب، كتابٌ تضمّه يداكَ فلا تتعبان، وتماشي أمواج سطوره عيناك فلا تُرهقان، ويواكب فكرك وروحك نبض الحبر في قلم الكاتبة حياةً فلا تُزهقان، بل أنّ كلّ ما تملك من قوى المعرفةِ تشعر وكأنّها تطالب الكاتبة بالمزيد علّك من تجارب الحياة وخوض غمارها، تستزيد...

فالكاتبةُ، على طراوة سنّي العمر، وبالرغم من كون الكتاب هو باكورة إصداراتها، تقدِّم لمطالِعي أدبها فكرًا نيّرًا ينقل لنا عمق التّجربة وزبدتها بدماثة العبارة ولطافة الأداء. هي توصل للقارئ ما تريد، من دون أن تحمّله عناء المُجاهدة كفاحًا ومثابرةً للّحاق بالمعاني اقتناصًا للمقاصد المرجوّة على عمقٍ بيّنٍ في الفكرة ومؤدّاها.

 

 

كتاب الحياة

إنطلاقًا من "غرام على الباب" حتّى نُزهة في خاتمة الكتاب، تعطينا ميشلين حبيب خواتيم الحكايا ونهايات القَصص ومرامي الوِقفات والمواقف. كأنّي بها على يقينٍ راسخ ٍ أنّ الأمور محسوبةٌ بخواتيمها حقًّا.

 

إنّها تفسحُ للقارئ في مطلع كلّ نصٍّ بياضًا، يخطّ عليه ما يحلو له من البدايات وما شاءَ من رؤىً وآراء، محدّدًا على هواه طول الحكاية أم اقتضاب أحداثها؛ أو لربّما تدعوه إلى مشاركتها فعل التّأليف، فلا تلزمه التّحلزن ضمن أُطر تفاصيلٍ جانبيّةٍ. كلُّ ما يشغلها أن تصِلَ إليه، مالئةً نفسه بما طرُبَت له نفسها وازدانت به لوحةُ قلبها وعَمُرَت بمجاني الحياة مخابىء فكرها من خواص المواقف والأحداث، نُدُبًا وأُمثولاتٍ رسخت في شخصها، وشاءت أن تُشرِكه بتجاربها الإنسانيّة: فنزفت من أجله العواطفَ حبرًا والأفكار كلماتٍ- بعد أن طالعتُها في كتاب الحياة- تمنّيت أن تُهدينا منها المزيد.

 

رقيُّ التّعبير

... وأُرافقُ الكاتبة في بعض ما ورد في الكتاب؛ علّني أدفع القارئ لمطالعة كلّ ما جاء فيه. لأنّه، والحقيقة تُقال، متى استقلّيتَ متنه وأمسكت بدفّتيه، أنا على ثقةٍ أنّكَ لن تسلوه، إلاّ وقد أتيتَ على كلّ ما يحتوي، مدفوعًا بسلاسة العبارة ورقيّ التّعبير على بساطةٍ في أثواب المعاني- المفردات - الّتي توسّلتها ميشلين الكاتبة، لتجعلِ المقاصدَ قريبة المنال بأُسلوبٍ طوع فكرها ومجاري حبرها، مضمِّخةً الورق بما طاب من نفسها وما سما من روحها تجربةً ومواقفَ وأفعالاً وانفعالاً.

"آهٍ كم يصيبُنا وينالُنا من شراهة الحياة! نأتيها وقد زُوِّدنا لمواجهتها بكلّ العَتاد، ولا تتركنا نغادر مرسحها إلاّ وقد جرّدتنا من معظمها. فنجلو عنها، وقد سقط منّا كلّ الحواس ومعظم القوى وكافّة المشاعر بالملّذات." ص9.

"لا يهمّ النّاس بمعظمهم، كيف نعمل، لكن ما يغريهم؟ هو معرفة كيف حصلت لنا الأُمور. فالنّاس مولعون بجمع الحكايا، ولا يعنيهم تفاصيلها- ليس لعدم حشريّتهم- بل لأنّهم يودّون تفصيل نهاياتٍ على مقاس مخيّلاتهم ونزواتهم... وهيهات أن يُفلحوا في مداناة الحقيقة... آهٍ كم عنى لي وأوحى أن ضَفَرتِ لعريسكِ عند اللّقاء السّنوي، إِكليلاً من وردٍ أَسود!!" ص.11.

"أمام الحقيقة آنستي، الجميع يتوارى متخلّفين عن المواجهة. الكلُّ مستعدٌ مَشوقٌ لمعرفتها، ولكنّ أحدًا لايجرؤ على عيشها متى تعرّت على شاشة البصيرة والبصر... لأنّنا، نحيا مواكبين للجنازات، وكلّ ظنِّنا أنَّ دورنا لا يزال بعيدًا؛ أو أنّهُ لن يحلَّ موعده البتّة... ومؤساة الأحياء لفقدهم مَن افترق عنهم، لا تعنينا!!" ص.15.

"الطّبع يغلب التطبُّع. لا تكفي الإنسان في بعض المواقف، جُرعات كثيفة من عُقار الإرادة... فالمواجهةُ تحدٍّ يُعيد الإنسان إلى ما انطبع عليه. وهل تموت الشّجاعة في الأسد؟ وهل ينتفي السُّمُ في ناب الأفعى؟ لذا، فلن يغيبَ اللّؤم عن اللّئيم، ولن تغتربَ العفّةُ عن العفيف، ولن تمّحق الكرامة في وِقفة الأصيل، ولو أدى كلٌّ منهم الدّيةَ واقفًا." ص.17.

"آهٍ من خساسة الغاية وخبثها في نفوس البشر الدّنيئة! فخساستهم تدفع بهم إلى التّواري خلف ألف قناعٍ وقناع بهدف تحقيق نزواتهم السّافلة؛ ويخرجون إلى النّاس غاسلين أيديهم من دماء ضحيّتهم مُستكينين إلى خساسة فعلتهم مُمسكين ببرقع خبثهم رغم كلّ شيء!!" ص.23.

 

حقائق دفينة

ومن رائع ما وقعتُ عليه في كتاب لأنّنا على قيد الحياة: "أنّ النّتانة إن استشعرناها، لا بدّ أنّها صادرةٌ من أعمق داخلنا. فأقربُ مكانٍ نبحث فيه عن سبب وحقيقة ما يلازمنا من روائح كريهةٍ، هو ذاتنا إن نَتُنَتْ!!" ص.25.

"ولَكَم ما بين بني الإنسان من أَرثراتٍ متأسدنين ويجهلون حقيقة ما هم عليه حقّا!! كثرٌ من بين النَّاس لو تكشّفت لهم حقائقهم الدّفينة، لأَغرقوا جِثثَهُم الحيّة في محيطٍ من دموع النّكثة!!" ص.29.

"عجبًا! حتّى الدّجاج بات يفقَهُ أُصول معاني التّواصل العصري وعباراته التّقنيّة. حقًّا إنَّه لداءٌ فتّاكٌ بالقيم وأهلها. وإن كان التّمدنُ الأعمى قد عرفَ كيف يُدني العلمَ من العقول، غير أنّه أمعن في المباعدة ما بين القلوب والنّفوس!!" ص.39.

"عندما يتحوّل الإنسان لذاتٍ مغايرة ٍ لذاته ويصدر عن تصرّفاتٍ خارجةٍ عمّا انطبع عليه أصلاً، يغدو مخلوقًا على غير ما وجِدَ من أجله... والطّبيعةُ، تأبى العُري وتستره بكلّ ما ملكتْ يداها... بخاصّةٍ، إن كان العاري بغير موضعه يقف، وبخلاف موقعه يتصرّف ويتداول الحياة." ص.41.

الشَّيء بالشّيء يُذكَر... والدّنيا أدوار... عند كلّ مصيبة، نلتقي بمثل إبراهيم مَن يُردِّد: "لا تكرهوا شيئًا لعلّه خيرٌ لكم. ولكنّه، لم يكن يحسب حسابًا ليومٍ سيأتي، وتنقلبُ دعوته عليه. لأنّ الدّعاء بغير موضعه، وإن كان للخير، فينتهي إلى غير وجهه، ويصيرُ حقًا أُريدَ به باطلٌ، وتستقرُّ أُمنية النّاس على التّخلّص من الدّاعي؛ ولو بظرف حَرج ٍ وسوء!!" ص.43.

إنّها بعض سوحةٍ في ما ورَد في الكتاب الباكورة. والأفضل منها، أن نجدّد الإقامة في مملكةٍ، أَرادتْها ميشلين حبيب،- الوافدة إلينا كاتبةً تعدنا بوفير الجنى- مرتعًا لقلمها: يصول ويجول في ميادين بناء إنسانٍ جديد لوطنٍ جديدٍ، به عيوننا تحلم والأفئدة تتمنّى صادقةً... علّها تودعُ بعض بذور فكرها النّير مراتع عقول زوّاره وقاصديه، فوق شِعابٍ من ورقٍ روّتها بماء القلب والحبر سهرًا: ما دمنا ودامت على قيد الحياة بعدُ؛ ناقلةً لنا ما انتابها من مشاعر، وما ساورها من أفكارٍ ومواقفَ إزاء الحياة وإنسانها، بلطيف العبارة وبليغها، في الوجيز الخيِّر ممّا قلّ ودلّ، والّذي سيحظى بمناصرين كُثر في زمنٍ فاض عنه متعلّموه وندُرَ فيه وشحّ القرّاء وأنصار المطالعة.




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=10678