جماليـــا : ثقافة , آداب , فنون

From site: http://www.jamaliya.com

كتاب "المدينةُ منبعُ إِلهام" - حرفٌ من كتاب - الحلقة 122


هنري زغيب
19/08/2013

 

    لا تَزال بيروت، وستبقى، تَستقطبُ كلاماً وأَقلاماً وأَيّاماً هي بين خواطر الزمن حُلِيَّاتُ الزمن.

صدر عنها الكثير ويَصدر وسوف يبقى لها كثيرٌ يقال، لا القولُ ينضُب ولا هَيْبَتُها تَذبُل من أَلَق.

بين يديَّ كتابٌ عمرُهُ خمس عشرة سنة ولا يزال نَضِر البَوح عن بيروت، أَنيقَ البثّ عن أَلقِها الـمُشِعِّ دوماً جوهرةَ المدن.

أَمامي كتابُ "المدينة مَنبعُ إِلهام"(La Ville-Source d'inspiration) للدكتورة منى تقي الدين أَميوني، صادرٌ بالفرنسية سنة 1998 عن منشورات "المعهد الأَلماني للدراسات الشرقية" في 240 صفحة حجماً كبيراً، وكان أُطروحةَ دكتوراه قدَّمتْها المؤلِّفة في جامعة السوربون سنة 1990 ونالت عليها درجة "جيِّد جداً".

مَباحثُ الكتاب عن المدينة شملَت القاهرة (مع نجيب محفوظ) والخرطوم (مع السوداني الطيب صالح)، وبيروت مع مجموعة أُدباء وجعوا مع بيروت خلال سنوات الجمر التي لوَّعتها.

معالجة الموضوع انطباعيةٌ حدسيةٌ بَدَت بها مَشاهدُ المدينة ذهنيةً أَكثر منها مكانية، ومنبعاً غنياً جعل الأُدباء يُثْبتون في نصوصهم تُراثاً إِنسانياً مرتبطاً وثيقاً بمعنى المدينة جوهراً ونمط حياة. فالمؤلِّفة وجدَت في بيروت أَفصحَ تعبيرٍ عن واقع المواجهة بين الإِنسان والمدينة: بيروت إِحدى أَقدم المدُن الأَثرية في العالم دمَّرَتها حربٌ شرسةٌ سنواتٍ حارقةً حتى إِذا نَقَّب فيها المنقبون بعد الحرب وجدوا في قلبها حياةً لا تَمحوها حروبٌ ولا عصور، وحين حسَرَت عن صدرها وجدَ العالم أَنّ بيروت مدينةُ الحياة التي لا تطفئها، مهما بطَشَت، جَهنَّماتُ الموت.

وتروح منى تقي الدين أَميوني تتابع بيروت قبل الحرب وخلال الحرب وبعد الحرب.

تَبدأُ بروايةٍ تنبَّأَت عن الحرب قبل وقوع الحرب: "طواحين بيروت" لتوفيق يوسف عواد، صدرت في مطلع 1975 ورسمَت تشنجاتٍ تصادمت لاحقاً في بيروت بعدما تلأَلأَتْ ببهرجةٍ خنقَت المدينة وعشّاقها معاً. وكانت منظمة الأونسكو في سلسلتها "مُؤَلَّفات الأُدباء الأَكثر تمثيلاً لعصرهم" اعتمدت هذه الرواية " كــ"واحدةٍ من أَفضل مئة رواية في تاريخ الأَدب العربي".

بعدها تعالج المؤلفة رواية "ست ماري روز" لإيتيل عدنان حيث يفجِّرُ العنف حياةَ المدينة شظايا تَتَفَتَّت في الفضاء فيعود كلُّ شيءٍ بدائياً. ولأَن الذاكرة لا تُشفى، تَقذِف المدينة روّادَها إِلى أَرصفة الشوارع، فتتماهى عندها المرأَة والمدينة في مناخٍ من كُفْرٍ جاحدٍ لا يَلبث أَن يُعيد المدينة والمرأَة معاً إِلى الطُّهر الأَوّل حين تَطلَع من رمادها هَيْبَةُ المدينة.

وبالتحليل نفسه تُعالج منى أَميوني روايات الياس خوري ورشيد الضعيف وهدى بركات، وتمر على كتابات محمود درويش عن بيروت التي ولدَ فيها ثانيةً مدينةً تتحقَّق فيها الأَفكار وتتفتَّق المواهب والخيالات وتتجسّد الأَحلام الوردية.

وتخصِّص المؤلفة فصلاً لاستجماع آلام بيروت المستعيدةِ خلاصَها في كتابات شعرائها من ناديا تويني إِلى كلير جبيلي إِلى أَدونيس، وُصُولاً إِلى جورج شحادة الذي يرى إِلى بيروت مدينةً من الخيال الشاعريّ الجميل.

وتختم منى أَميوني كتابها بأَنّ "المرأَة والرجل يشربان معاً من نبع المدينة، إِذا فقداه تاها يبحثان عن قلب المدينة. الرجل والمرأَة يسكنان، حقيقةً أَو خيالاً، في قلب المدينة لأَنه، كما قال شاعرٌ يوناني قديم، لا يصير الإِنسان إِنسانياً حقاً إِلاّ إِذا سكَن المدينة.

كتاب منى تقي الدين أَميوني "المدينة منبعُ إِلهام" سِفْرٌ موثَّق أَدبياً عن مُدُن زارتْها المؤلفة وأَحبَّتْها لكنها بدأَت وجالَت ثم عادت إِلى المدينة التي لا غِنى عنها ولا ضَيَاع: بيروتِنا الغاليةِ الحبيبة، مصدرِ الإِلهام وينبوعِ الحُبٍّ الحقيقيّ.

                                                          هـنري زغـيب email@henrizoghaib.com

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أزرا ر   800

هنري  زغيب

"ويلٌ لأُمَّةٍ تَكثُر فيها المَذاهبُ ويقِلُّ فيها الدين"

    حين مهّدَت الثورةُ الفرنسية لقيام الدولة العلمانية، لم يقُم أَثناءَها ولا بعدها مَن ناهضَ الدين أَو تعرَّض لمركز عبادة.

وكذا الثورةُ الأَميركية: أَسَّسَت للدولة العلمانية مع احترام شِيَعٍ ومذاهبَ وطوائفَ وفُروعٍ دينية كثيرة لا تتدخَّل في الحياة المدنية اليومية لدى مفاصل الدولة أَو بين صفوف الشعب.

هذا الواقعُ دفعَ جبران إِلى صرخته قبل تسعين سنة: "ويلٌ لأُمّةٍ تكثُر فيها المذاهب ويقِلُّ فيها الدين". كان يحاول إِنقاذ بلاده من نيرٍ خانق يسيطر عليها، ولم يتصوّر أَنّ تلك الصرخة ستبقى صالحةً حتى اليوم، أَو أَن تنتشر أَكثر في وطنٍ رفضَه بــ"لَكُم لبنانكم ولي لبناني" وخاطبَ مُواطِنَه أَنى كان بشموليةٍ إِنسانية: "لماذا تُخاصِمُني وأَنتَ رَفيقي على طريق الحياة، وأَنا أُحِبُّكَ ساجداً في جامعِك، راكعاً في هيكلِك، مُصلِّياً في كنيستِك"!

هذه الدعوةُ تُنقذ الدِّين من مُغالين باسم الدِّين، مُستغلّين كلَّ ما لا علاقة له بالدِّين الذي لَـم يَدْعُ إِلاّ إِلى التسامح والمحبة بين بني البشر.

هوذا المسيح يدعو في وُضوح: "وَصِيَّتِي أَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا كَمَا أَنا أَحْبَبْتُكُمْ" (يوحنا 15:1)، وهوذا يوحنا ذاتُه يستوحي هذه الوصية في رسالته الأُولى: "كاذبٌ من قال إِنه يُحبُّ الله وهو يُبغضُ أَخاه. فكيف يُحبُّ اللهَ الذي لا يراه ويُبغِض أَخاه الذي يراه؟".

وهوذا الله تعالى يُخاطب المؤْمنين في القرآن الكريم: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" (الحجرات:13)، وأَكثر: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الحجرات:10).

وهوذا أَنَسُ بن مالك يَنقل عن حديثٍ شريفٍ للنبي وصيّتَه الإنسانية: "عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنّه قَالَ: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".

فمن إِذاً يَرى في تعاليم القرآن الكريم أَو الإِنجيل المقدس ما يدعو إِلى الـمُخاصمة أَو الـمُقاتلة أَو ارتجال أَحداث مذهبية أَو طائفية أَو دينية؟

العَلْمنة ليست الكُفْر في أَيِّ دينٍ بل هي احترامُ الدين وتقديسُ شعائره في مراكز شعائره.

لذا لن يُنقذَنا من السيوف الـمَشهورة باسم الدِّين إِلاّ شَهْرُ الدِّين ذاتِه هِدايةً واهتداءً، وفصلُهُ عن الدولة حتى تُساوي الدولة بين مواطنيها ويساوي الدِّين بين مؤْمنيه.

من هنا نبدأُ بدخول العصر كي نستاهلَ العصر.

وإِلاّ فنحنُ باقون في عصُور وُسطى جاهليةٍ تَسوسُها الغرائز وتُدمِّرُها الغرائز وتَتَناسلُ أَجيالاً جديدةً مَـجبولةً بالغرائز.

وما هكذا نُـهيِّئُ للمستقبل أَجيالَ لبنان.

 

 

 

 

 

 

 

 

إذاعة "صوت لبنان" -  برنامج "حرفٌ من كتاب"

الحلقة 123: كتاب "أَفندي الغلغول"

لــــيوم الأَحـــد 30 حزيران 2013 

    إِنها بيروت، بيروتُنا الحبيبةُ الغالية، تُثيرُ وتَدفَعُ وتُلهِمُ أَقلامَنا وأَقلامَ سِوانا لسَرْدِ صفحاتٍ منها عابقةٍ بعُذُوبةِ الزمان الماضي وطعْم ذكرياته.

بين أَحدَث الجديد: كتابُ "أَفندي الغلغول" للأُستاذ الجامعي الدكتور نادر سراج مُؤَسِّس "مَرصَد بيروت الحَضَري".

ولـــ"أَفندي الغلغول" عنوانٌ جانبيّ: "شاهِدٌ على تَحوُّلات بيروت خلال قرن" وعنوانٌ تفصيليٌّ ثالث: "بيروت العثمانية- سيرةُ الأَمكنة والعائلات والحِلّ والتَرحال- هاشِم علي الجمّال العينُ البيروتيّ نموذجاً".

الكتاب في 240 صفحة قَطْعاً موسوعياً كبيراً تَحتلُّ غِلافَهُ صورةُ "أَفندي الغلغول" الذي غاب سنة 1940 عن 86 سنة.

أَمّا "الغلغول" فمنطقةٌ كانت تُعرَفُ بـ"زقاقِ الجَمّال" أَو "زاروب الجَمّال" جنوبِيَّ سور بيروت القديم تفصِلُ بينها وبين السّور ساحةُ السوّر التي هي اليوم ساحة رياض الصلح. وعن المؤلّف أَن "الغلغلول حَيٌّ بيروتيٌّ شعبيٌّ تقليديٌّ احتضن ذكريات البيارتة".

وأَمّا "الأَفندي" فهاشم علي حسين الجَمّال أَحدُ أَعيان بيارتة خمسةَ عشَرَ اجتَمعوا غُروب 31 تموز 1878 في دارة الشيخ عبدالقادر قبّاني عند منطقة زقاق البلاط، وأَسّسُوا "جمعية المقاصد الخيرية الإِسلامية". لذا، يوم توفّي "أَفندي الغلغول" سنة 1940 قال عنه الرئيس صائب سلام إِنّه "كان آخر الأَحياء".

كتاب الدكتور نادر سْراج من ثلاثة فصولٍ يُشكّل الأَوّلُ منها "سيرةَ أَفندي الغلغول" ونُبذةً عن بيروت العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، انطلاقاً من زاروب الجمّال - أَحدِ معالِم منطقة الغلغول - مُروراً بساحة الـ"عَ السُّور" مَعْبراً إِلى يوميات المدينة، فخُروجِ أَعيان بيروت متدَخِّلين متضامنين لِــلَجْم فتنة سنة 1860، فالزياراتِ إِلى الشام بعرَبات "الديليجانس"، فالانتدابِ الفرنسيّ وتبدُّلاتِ الوثائق الرسمية، وأَحوال التعليم بين سليم علي سلام خطيباً و"أَفندي الغلغول" قارئاً، وشَقِّ الشوارع الـمُستقيمة في بيروت، فأَوضاعِ بيروت الديموغرافية مطلعَ القرن التاسع عشر، وُصولاً إِلى مرافِقَ عامّةٍ ومنشآتٍ ودُورِ عبادةٍ في تلك الحِقبة.

الفصل الثاني يَروي فصولاً عن أَبناء "أَفندي الغلغول" وأَنسِبائهم ووقائع أَيّامهم، من محمد بشير إِلى محيي الدين الضابط العثمانيّ والقاضي الشرعيّ، إِلى إِحسان أَفندي (جدّ المؤلّف) وكان مَأْموراً في وزارة المالية، إِلى مصباح أَفندي الموسيقيّ والمهندس الزراعيّ، إِلى الأَيام الأَخيرة من هاشم أَفندي الغلغول ضيفاً على ابنه عارِف في النّبَك.

ختامُ الكتاب في الفصل الثالث: سيرةُ "أَفندي الغلغول" بالصُّوَر والوثائق منذ فُتُوّةِ هاشم نشأَةً وانتظاماً في الإِطار الثقافيّ الاجتماعيّ العثمانيّ إِلى شغَفه بالتَّصوير والتدوين، إِلى سعْيِه وراء جَمع الصُّوَر، وتشكيلِ مجموعةٍ نادرةٍ لصورٍ عائليّةٍ جماعية من تلك الحِقبة البنفسجية لعائلات بيروت في تلك الفترة.

وعَرَف المؤلّف، باحترافيّته الأَكاديمية، كيف يَنقلُ تاريخَ هذه العائلة من إِطارِها الضيّق الـمَحصورِ والـمَحدودِ بهاشم الجمّال ("أَفندي الغلغول") تَوَسُّعاً إِلى سيرة بيروت طيلةَ قرنٍ كاملٍ من تاريخها، صفحاتٍ غنيّةً بالنُّصُوص الـمُوثَّقة والصُّوَر القديمة لبيروت القديمة في تلك الأَيام القديمة تَجعَلُ لها مَذاقاً لازَوَردياً ليس يَذبُلُ مع أَيِّ غروب بل يَظَلُّ شُرُوقاً دائماً لعاصمتِنا الغالية بيروت، ولعائلاتها الأَصيلةِ العريقةِ ذُخْراً طيّباً لِغنى تاريخ لبنان.

 

الأَحـــد 23 حزيران 2013 

 

 




Link: http://www.jamaliya.com/ShowPage.php?id=10273